عندما دأبت “شهرزاد” على سرد قصصها، طوال الليالي الألف، كانت شيئاً فشيئاً تروّض الملك “شهريار” المصاب بخيبة أمل من جنس النساء. أفلحت شهرزاد أخيراً في النجاة من سيف الخادم “مسرور”، وانتهت الحكاية بقبلة عميقة على الشاشة، في المشهد الأخير، دون أن نرى أسماء النساء اللواتي قتلهن الملك شهريار!..
وعندما دأب الفيلسوف “بيدبا” على سرد قصصه، عبر كتاب كامل (كليلة ودمنة) ازدادت حكمة الملك “دبشليم” واتسعت رحمته لتشمل الرعية كلها، وتعبر التاريخ، مع أن جميع القصص جاءت على ألسنة البهائم والطيور، وقائمة على الإيحاء والرمز، لكن ذلك لم يخفَ على الملك الطاعن في الحكمة!..
وعندما دأبت جدّاتنا على سرد الحكايات، حين كنا صغاراً، لم نتعلم الحكمة ولم نستفد من تجارب السابقين، وآثرنا بدلاً عن ذلك.. الطيش والرعونة، لا لأننا كنا نسقط في النوم سريعاً، بل لأننا لسنا ملوكاً!..
وعندما بدأت شركات الهواتف النقالة تتسابق في تقديم خدماتها للزبائن حتى وصلت إلى درجة “اللامحدود” التي تمكننا من الحكي طوال الأربع وعشرين ساعة في اليوم، لم تكن تدرك أنها تحوّلتنا إلى مستمعين طوال الوقت، وليس متكلمين.. كما تعتقد تلك الشركات. ها نحن نتبادل التهم!..
وعندما أطلق الفلاسفة مقولة “الإنسان حيوان ناطق” لم يدر بخاطرهم أن الكثيرين سيرفضون هذه المقولة وسيعملون على دحضها وإبطالها بكل أنواع النطق البشرية والحيوانية، عبر مساجلات ومداولات ومهاترات واشتباكات.. قد تفضي غلى مقولة أخرى، من طراز “الحيوان إنسان أخرس” أو أي شيء آخر!..
وعندما قررنا، نحن العرب، أن نحكي في السياسة طوال الوقت، وأن نختلف مع بعضنا، لم نكن ندرك، وما زلنا لا ندرك، أننا نفعل ذلك احتجاجاً على تغييبنا القسري والتعسفي من قبل اللاعبين السياسيين، الذين لم يقبلوا بنا حتى بصفة “لاعبي احتياط”، وأكثر من ذلك لم يسمحوا لنا أن نحضر في الملعب كمتفرجين..
وعندما دأبت قنوات التلفزة ومحطات الإذاعة على البث طوال الأربع والعشرين ساعة حولتنا إلى كتلة عجيبة من المنصتين، ولكننا حين رأينا اللاعبين الكبار عبر تلك الشاشات وهم يتلعثمون ويرتبكون ويعجزون عن قراءة أوراقهم، ازداد إحساسنا وشعورنا بأحقيتنا في الكلام، لنثبت لأنفسنا على الأقل أننا أكثر ذكاء منهم، وأنه بإمكاننا اللعب بطريقة أفضل لا يغيب عنها الفن واللياقة..
عندما علمونا طوال سنوات طفولتنا أن “نحكي” وأن نتدرب على الكلمات والأصوات، ثم بعد ذلك ظلوا لبقية حياتنا يعلموننا أن نصمت، في حضرة الجميع، وفي كل مكان!
احتجاجاً على كل ما سبق، هذه دعوة إلى الثرثرة!..
Leave a Reply