تحاول قوى »١٤ آذار« الايحاء والترويج بان انتصار المعارضة وعلى رأسها »حزب الله« في الانتخابات النيابية، وحصولها على الاغلبية في مجلس النواب، ومن ثم تشكيل الحكومة، ستواجه بمقاطعة دولية وحتى عربية للحكم الجديد، وان لبنان سيطبق عليه نموذج قطاع غزة في عدم الاعتراف بسلطة حركة »حماس« التي انتجتها انتخابات تشريعية شهد لها العالم عبر وسائل الاعلام والمؤسسات الدولية التي راقبت العملية الانتخابية، بمن فيهم مؤسسة الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر الذي حضر هو شخصياً هذه الانتخابات وشهد على نزاهتها.
لكن ما حصل في غزة لن يتكرر في لبنان، لان الوضع مختلف كلياً، وان فوز المعارضة تعني شريحة كبرى من اللبنانيين، وهي تضم كل شرائح المجتمع اللبناني الطائفي والسياسي، وان »حزب الله« يمثل داخل طائفته نسبة كبيرة من المؤيدين له ولمقاومته والمصنف لدى اميركا »ارهابياً«، لكنه في اوروبا ودول اخرى لم يوضع على لائحة الارهاب حيث رفض »الاتحاد الاوروبي« تصنيفه بهذه الصفة، لان الاوروبيين عرفوا معنى المقاومة ضد الاحتلال، وقد وصلت المقاومة الى الحكم في الدول التي حررت اراضيها من »الاحتلال الالماني«، فحكم الرئيس شارل ديغول كمقاوم وتبوأ رئاسة الجمهورية، واقام الجمهورية الخامسة، ولذلك كانت سياسته معتدلة ومتوازنة من القضايا العربية، وتفهم حق الفلسطينيين باسترداد ارضهم بالمقاومة، كما رفض الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان ووقف موقفاً مناهضاً للسياسة الاسرائيلية في المنطقة، وهو اسس لنهج اوروبي مختلف عن السياسة الاميركية وعن الحلف الاطلسي الذي انسحبت فرنسا عنه، واصبحت صديقة الى العرب الى حد كبير.
فالاوروبيون يميزون بين المقاومة والارهاب، ولقد اعترفت الكثير من دولهم بمنظمة التحرير الفلسطينية وفتحت لها مكاتب تمثيليه وبعضها اتخذ الطابع الدبلوماسي، وكان رئيسها ياسر عرفات يستقبل في كثير من المقرات الرئاسية الاوروبية، مما شكل تمايزاً مع الاستراتيجية الاميركية في المنطقة.
واذا افتتحت بعض الدول الاوروبية الحوار مع »حزب الله«، فان هذا التوجه له جذوره الفكرية والسياسية وقد قرأت هذه الدول ظاهرة هذا الحزب الذي وصف في الثمانينات من القرن الماضي بانه »ارهابي«، وقام بعمليات خطف اجانب ودبلوماسيين، تبين ان لا علاقة له بذلك، وان التهمة التي وجهت الى الشهيد عماد مغنية، بانه يقف وراءها، أظهرت الوقائع ان المواجهات التي خاضها »حزب الله«، انما كانت ضد اسرائيل وحليفتها الاستراتيجية اميركا، وان ما قيل عن استهداف مقر »المارينر« قرب مطار بيروت والقوات الفرنسية في منطقة الرملة البيضاء، من ضمن القوات المتعددة الجنسيات التي جاءت الى لبنان في العام ١٩٨٢ اثر الغزو الصهيوني، فان من قام بهذه العمليات، فانما كان يستهدف دولاً دعمت الاحتلال الاسرائيلي للبنان.
وهذه المرحلة من الثمانينات التي تم تسليط الضوء فيها على »حزب الله« وقبل ان يظهر كتنظيم فاعل في المقاومة، كان ينظر اليه من زاوية انه جزء من »الحرس الثوري الايراني« ومن ضمن المواجهة المفتوحة بين الجمهورية الاسلامية الايرانية والغرب، في ظل الحرب العراقية-الايرانية وخوفاً من تمدد هذه الثورة التي اطاحت بحليف الغرب واسرائيل شاه ايران، حيث لم يبرز الدور المقاوم للحزب الذي لم يكن يعلن عن عملياته، مثل تلك العملية الاستشهادية التي نفذها الجهادي احمد قصير في مقر الحاكم العسكري الاسرائيلي في صور في العام ١٩٨٣، او في غيرها من العمليات التي كانت احزاب وطنية لبنانية تقوم بها كالحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني وحركة »امل« وحزب البعث العربي الاشتراكي، حيث برز الحزبان القومي والشيوعي في العديد من العمليات لاسيما الاستشهادية منها، وقد بدأ نشاطهما المقاوم ينحسر منذ ما بعد منتصف الثمانينات، ليتقدم دور »حزب الله« ويصبح القوة الاساسية والمنظمة في المقاومة، التي سجلت انتصارات منذ مطلع التسعينات، وتصدت للعدوانيين الاسرائيليين في العامين ١٩٩٣ و١٩٩٦، الى ان كان التحرير في العام ٢٠٠٠ ودحر العدوان في ٢٠٠٦ على مدى ٣٣ يوماً، فتغيرت صورة »حزب الله« امام الرأي العام اللبناني اولا، ثم الغربي ثانياً، تغيرت في مطلع التسعينات مع انتخاب السيد عباس الموسوي اميناً عاماً، خلفاً للشيخ صبحي الطفيلي الذي كان يعرف بتشدده ورفضه الانخراط في الحياة السياسية، كما انه لم يكن يميل الى مشاركة الحزب في الانتخابات النيابية من مفهوم شرعي اسلامي، لكن نهجه فشل وانتصر نهج الحوار والتواصل الداخلي وتأمين التفاف شعبي وسياسي لبناني حول المقاومة، وهذا ما نجح به السيد حسن نصر الله في الامانة العامة للحزب خلفاً للشهيد الموسوي الذي اغتالته اسرائيل في الجنوب، حيث عبر »حزب الله« الى مجلس النواب لكنه لم يعبر الى الحكومة، وكان في موقع المعارضة لها، وقد مورس ضغط اميركي على ان لا يتمثل الحزب في الحكومات التي ترأسها رفيق الحريري، وكانت المساعدات الخارجية تربط بانهاء المقاومة واخراج »حزب الله« من المعادلة السياسية بمحاصرته واضعافه، وقد تم التفكير اكثر من مرة داخل احدى حكومات الحريري ارسال الجيش الى الجنوب لضرب المقاومة او تجريدها من سلاحها، وقد وقف قائد الجيش آنذاك الرئيس اميل لحود، بوجه هذا المخطط فرفض ان يقوم الجيش بعد عدوان تموز ١٩٩٣ بطرد المقاومة من الجنوب وارضه محتلة.
لذلك احتل »حزب الله« موقعاً متقدماً على الساحة اللبنانية، وسقطت فكرة انه يسعى الى اقامة »جمهورية اسلامية« في لبنان، باعترافه بالدستور اللبناني من خلال اشتراكه في الانتخابات النيابية وتكوين كتله نيابية من كل الطوائف والمذاهب، ودخوله الى الحكومة منذ العام ٢٠٠٤، فاكد بالممارسة انه منخرط في اطار الدولة ومؤسساتها، رداً على كل ما يشاع عنه انه يقيم »دولة ضمن الدولة«، متذرعين بسلاحه المقاوم الذي اقر اتفاق الطائف به، واعطاه الدستور شرعية، كما الحكومات المتعاقبة، ومنها الحكومة الاخيرة، وهذا السلاح لم يتصادم مع الجيش اللبناني بل تكامل معه بشهادة ثلاثة قادة للجيش اميل لحود وميشال سليمان وجان قهوجي، واثبتت الممارسة صحة التكامل بين الجيش والمقاومة، وهو ما تبحثه طاولة الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية، بعد ان اكد السيد نصر الله، ان لا تناقض بين الطرفين، وكل جهة تقوم بالمهام المطلوبة منها، في لحظة حصول اي عدوان اسرائيلي وان هذا السلاح لم ولن يستخدم في الداخل، الا اذا تم التعرض له، او محاولة ازالته، كما حصل مع اتخاذ الحكومة السابقة قراراً بفك شبكة الاتصالات للمقاومة، مما تسبب بازمة سياسية واعتراض من المقاومة والمعارضة عليه على الارض، مما فرض تراجع الحكومة عن قرارها وفشلت في تحقيقه، كما هزمت اسرائيل في عدوانها صيف ٢٠٠٦ بتدمير المقاومة وسلاحها.
كل هذه المعطيات فرضت »حزب الله« رقماً صعباً في المعادلة الداخلية، كما وضعته على خريطة المنطقة في العالم العربي وايضاً الاسلامي، اذ امتد تأثيره دولياً، لجهة التعاطف والتأييد الذين لقيتهما المقاومة في تصديها للعدوان الاسرائيلي، وجاءت انتصاراته على اكبر جيش في الشرق الاوسط، ليعطيها قوة اضافية، مما رفع من حجم »حزب الله« الشعبي والسياسي، ولم يعد باستطاعة المؤامرات الداخلية والخارجية شطبه عن الساحة اللبنانية، ولا الغائه من المفكرة العربية والاقليمية والدولية، فاضطرت الدول الاوروبية الى التفاوض معه، وعدم التنكر له، ولم تنفع التحذيرات الاميركية والاسرائيلية في ذلك، فدخلت المانيا في مفاوضات لاطلاق سراح الاسرى اللبنانيين في السجون الاسرائيلية، مقابل اسرى اسرائيليين مع المقاومة، ونجحت في عمليات تبادل الاسرى، كما ان فرنسا دعت مندوب عن »حزب الله« الى طاولة حوار في سان كلو بين اطراف لبنانية صيف ٢٠٠٧، وشارك مسؤول العلاقات الدولية نواف الموسوي فيها، وكان حضوره مدار تساؤل عن تغيير في سلوك فرنسا تجاه المقاومة، كما ان الموقف البريطاني الاخير الذي اعلنه وزير الخارجية ديفيد ميليباند ودعا الى استئناف العلاقات مع الجناح السياسي لـ»حزب الله« اشارة الى التطور في التفكير البريطاني خصوصاً والاوروبي عموماً، حيث معروف عن ان لندن تسير في السياسة الاميركية، مما يكشف عن ان المقاومة التي اكدت شرعيتها الشعبية واكتسبتها سياسياً من خلال وجودها في الحكومة ومجلس النواب، مما اوجد واقعاً لا يمكن القفز فوقه، وان وزراء المقاومة موجودون في حكومة تعترف بها دول العالم والامم المتحدة، وبالتالي فان الاعتراف بـ»حزب الله« امر طبيعي، وان تسمية بريطانيا له الجناح السياسي لتمييزه عن المقاومة لا يقدم او يؤخر بشيء لانه جسم واحد وليس جسمين، وصحيح ان لكل جناح السياسي او العسكري دوره ومهمته، لكن كل عمل منهما يصب في نجاح الاخر ويكملان بعضهما، وان قائد المقاومة السيد حسن نصر الله هو قائدها السياسي والعسكري فلا وجود لقائد سياسي واخر عسكري.
من هنا يبدو الانفتاح البريطاني يصب في اتجاه الاعتراف بالمقاومة اولاً، لان الحكومة اقرت بشرعيتها وهي جزء منها وان تمثيلها في الحكومة ليس سياسياً فقط، بل يعبر عن المقاومة ويدافع عنها ويحمي وجودها وسلاحها، وان تضمين البيان الوزاري فقرة عنها، هو هدف سياسي، ولقد احتج وزراء المقاومة واستقالوا، عندما شعروا ولمسوا من ان هناك اتجاه لدى حكومة فؤاد السنيورة الاولى قبل عدوان تموز وبعده في العام ٢٠٠٦، الى نزع سلاح المقاومة بطريقة من الطرق، مما يؤكد ان لا انفصال ابداً بين الجناحين السياسي والعسكري، وان »حزب الله« سبق وابلغ من يعنيهم الامر، انه ليس حركة »ارهابية« كما تزعم اسرائيل وتصفه اميركا، وهو انتزع الاعتراف بانه حركة تحرير وطنية عندما تم التفاوض معه اوروبياً ومن الامم المتحدة، حول مسائل عديدة، وكان تفاهم نيسان ١٩٩٦، ذروة الاعتراف بشرعية المقاومة وحقها في الدفاع عن لبنان باعتراف دولي، والمناخ الاوروبي الذي بدأ يعكس نفسه على الحوار مع »حزب الله« منذ سنوات، بدأ يتجه ايضاً نحو حركة »حماس« التي سجلت انتصاراً بصمودها في غزة، وهو ما دفع شخصيات اوروبية الى التحاور معها مباشرة فالتقى وفد نيابي بريطاني زار دمشق رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل، كما ان فرنسا اقامت حواراً سرياً مع مسؤولين من زحماسس وكذلك مسؤولون المان.
فالحوار الاوروبي مع المقاومة اللبنانية او الفلسطينية، يؤشر الى تطورات حصلت بعد حربي اسرائيل صيف ٢٠٠٦ وشتاء ٢٠٠٩ على لبنان وغزة، وستظهر معالم هذا الحوار في محطات لها علاقة بالسلام، الذي لن يكون بالتأكيد وفق الشروط الاسرائيلية التي لم تعد الدولة العبرية قادرة على فرضها.
و»حزب الله« الذي نظر الى الانفتاح الاوروبي عليه بكثير من الجدية والايجابية، يؤكد انه لن يغرق بالتفاؤل لجهة اللعب على الفصل بين الجناحين السياسي والعسكري، او وقف العمليات العسكرية لصالح الانخراط في الحياة السياسية، وهذه مسألة تخطاها »حزب الله«، لانه حمل البندقية بيد وشارك باليد الاخرى في الحياة السياسية والنيابية والحكومية في الوقت نفسه.
Leave a Reply