ولدت في لبنان عام 1960، لأبوين لبنانيين من أجداد لبنانيين، أقله بالمفهوم الجغرافي للانتماء. اسم أبي الراحل علي ملحم محمد أسعد حسن العزير. والراحلة امي اسمها خديجة محمد درويش عقيل، أغفلت الإشارة إلى لقب الحاج ضناً بالمساحة لأنهم كثر في الجانبين. أبي بعلبكي معروف (على الأقل) في الأوساط العائلية بأنه قبضاي و«زلمي»، ما يعني باللغة الفصيحة انه مستعد للعنف لفظاً وممارسة. وجدي لأمي (باعتبار ان ليس للنساء صفات تتجاوز الزواج والأمومة) معروف في منطقته من جبل عامل (بلدته الجبين) بأنه كان أشجع لصّ مواشٍ في إصبع الجليل إلى درجة أن المأثور الشعبي في المنطقة يقول إن المرأة التي كانت تحلب بقرة معاندة أو شموساً، كانت تدعي على بقرتها بأن «يبعث الله لها محمد الدرويش» ليأخذها وترتاح منها.
ككل عربي، خصوصاً ممن نشأوا في الأرياف، كان يهمني كثيراً نسب عائلتي، واكتشفت بعد عناء البحث والتمحيص أن عائلتي من الناحيتين لا تنتمي إلى الشائع من اسميهما. فلا آل العزير من ذرية النبي الوارد اسمه في القرآن، وهو صاحب الرقم القياسي في عدد المقامات والمزارات من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق. ولا آل عقيل من ذرية عقيل بن ابي طالب، المرذول شيعياً لأنه صالح معاوية بن أبي سفيان. كل من العائلتين ينتمي إلى نسب يرتقي إلى عامر بن صعصعة المنتمي إلى الفرع العدناني من أصل العرب، الفرع الذي ينتمي إليه بنو هاشم والرسول محمد.
فمن ناحية الأم تنتمي والدتي إلى عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن عقيل بن نزار بن مضر هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن معد بن عدنان. ومن ناحية الأب ينتمي والدي إلى بني نزار وهم بطن من عامر بن صعصعة يسلك الانتساب السالف الذكر. الأهم من ذلك أن أبي في المناسبات الرسمية والعائلية والهامة كان يضع على رأسه كوفية وعقالاً (العلامة الفارقة للباس البدو وعرب الصحراء) شأنه شأن كبار العائلة الذين كانوا يفضلون الدشداشة البيضاء أو القمباز العربي الفضي المخطط على السراويل الأوروبية الحديثة. كانت العباءة رمزاً للموقع والوجاهة وكانت الفروة رمزاً للنعمة والإقتدار. أول صورة فوتوغرافية رأيتها لأبي وامي كانا يرتديان ما نسميه الزي العربي (البدوي بلغة اليوم).
تعرفت إلى أول جمل وناقة في حياتي في بيت جدي الجنوبي الذي يعيش من زراعة التبغ وتربية النحل. لو كنت موهوباً بالرسم لصورت جمل جدي أبا القاسم في أحسن صورة. كان يعتني به كفرد من العائلة لم يكن يقبل أو يسمح بالإساءة إليه حتى لفظياً. «الجمل ذكي يا جدي» كان يقول لي. «الجمل يستاء من الإساءة»، كان يشدد وهو يبرك الجمل ليحملني إلى المشتل. «هو يعرف الطريق.. لا تخف»، كان يطمئنني وكان يربت على عنق الجمل قبل أن نسير إلى مساكب التبغ غير البعيدة. لم أر جدي أبا القاسم في حياتي دون كوفيته وعقاله، ودون قمبازه المخطط، طوال عطلات الصيف التي أمضيها في الجبين.
لم يعد جدي محمد الدرويش الذي يخيفون به الحلال، بل أصبح الحاجا أبو قاسم الذي مات وهو ساجد في صلاة المغرب، بقمبازه المقلم وبهويته التي لم يضل عنها. لم يقع عن مصليته بقي في حالة سجود حتى وجدوه في غرفته الوحيدة.
اليوم أرى على وسائل التواصل الإجتماعي أناساً من العرب أقل شأناً من أبي ومن جدي بالتأكيد، بعضهم يدعي الثقافة أو يمتهن الإعلام، لا يجدون في السياسة ما يقال تحقيراً، سوى نعت الحكومات والمجتمعات في شبه الجزيرة العربية، سواء كانت السعودية او الإمارات أو قطر، بالبعير والبدو والرمال. أسأل نفسي أحياناً، هل هؤلاء الناس، وهم أصحاب أسماء عائلات عربية عريقة وصريحة، يعرفون ما يقولون حين يستشيط بهم النزق إلى درجة شتم البدوي والبعير والرمل والصحراء؟ هل يعرفون أصلهم؟ هل ينظرون إلى صور آبائهم وأجدادهم؟ هل يعرفون فعلاً ما يقولون؟ هل يفقهون شيئاً من اللعبة؟ أم أن كيدهم أطاح بكل صوابهم وصاروا من أنصار «النكاية بالطهارة»؟
نعم أنا عربي. محمد كان عربياً، والقرآن عربي، وعليّ عربي والحسن عربي، والحسين عربي. والأئمة السبعة، أو الأثني عشر، كلهم بدو. كلهم استخدموا الجمال والنوق للترحال، كلهم عرفوا الصحراء والرمال. فإلى من توجه الشتيمة؟ هل سألوا أنفسهم أولاً ماذا يخدمون بلغتهم هذه غير الصهيونية؟ هل يعرفون أن أول من استخدم هذه اللغة هم الصهاينة.
والاستخدام الثوري الإيراني جديد في هذا المجال. فالخميني عربي هاشمي والّا لا تجوز له السيادة. والخامنئي عربي هاشمي والّا لا تنعقد له راية الإمامة، وكل من وضع على رأسه عمامة سوداء يقول إنه هاشمي، هاشمي يعني عربي، عربي يعني بعير وناقة ورمال وصحراء. عربي يعني كوفية وعقال. فهل كان الحسين في كربلاء يقود عربة «هامر» أو يوزع ما ندر من طعام وشراب على متن سيارات «نيسان»؟
أفهم أن تكون في حلق الفرس مرارة من قدرة بضعة مقاتلين عرب يمتطون النوق والجمال والخيل العربية على هزيمة رستم وما تبقى من مخلفات الإمبراطورية الساسانية بسيوف قليلة وعزيمة هائلة. شأنهم في ذلك شأن كل الأمم المتجاورة من تركيا واليونان إلى فرنسا وألمانيا وصولاً إلى الصين واليابان حيث تترسخ في الأذهان أنماط عن الجار السيء، فقط بحكم الجيرة. لذلك فإن أكبر منغص لأي ثوري في إيران تسمية الخليج (الفاصل أو الواصل بينها وبين جيرانها). أي مؤتمر أو نشاط أو منتدى يسمي ذلك الخليج بالخليج العربي تقيم الجمهورية الإسلامية في إيران القيامة عليه. تصر على تسمية الخليج الفارسي، فقط لأن أبي عبيدالله بن الجراح وخالد بن الوليد تمكنا بإمكانات ومعدات قليلة من هزيمة امبراطورية باسم نبي عربي أتى بقرآن عربي.
لكن لا يمكن أن أفهم كيف لعربي يتباهى معظم الوقت بعراقة سلالته ويضع البعض منهم شجرات عائلة تتصل بقريش أو اليمن أن يشتم العرب جملة وأن يهين رموزهم الوجودية من الخيمة إلى الرمل إلى البعير.
فإلى العربي الذي يعتبر أن الجمل عار والناقة عار والصحراء عار والرمل عار، ما هو بديلك؟ هل تعرف شيئاً عما قاله ولايتي عن الإمبراطور العادل؟ هل سمعت إيرانياً مسؤولاً أو مثقفاً أو إعلامياً يحط من قدر إمبراطوريته التاريخية البائدة التي يعتبرها الإسلام بالنص القرآني ككل الإمبراطوريات التي لم تعبد الله باطلة وعلى ضلال.
إن كنت تعرف الجواب، فتلك مصيبة…وإن كنت لا تدري، فالمصيبة أعظم. قل في السياسة ما تشاء وقل في المواقف ما تريد هذا شأنك، أما أن تشتمني في إنسانيتي وتاريخي وكياني فهذا شآن عليك. نعم أنا بدوي، أنا عربي، أنا إنسان.
Leave a Reply