كان لقاء القدس في استانبول مؤثراً ومفرحاً ومحزناً ومشجعاً. كان مؤثراً حين بدأ يتوافد إلى القاعة مقدسيون وفلسطينيون لا نراهم إلا على شاشات التلفاز داخلين إلى سجون الاحتلال الإسرائيلي أو خارجين منها ليعاود الاحتلال التنكيل بهم بأساليب مختلفة، وأغرقهم الحاضرون من كافة أقطار الوطن العربي بالقبل والتحية وأخذ الصور التذكارية في هذه اللحظات التي يتنسمون فيها بحقهم في بعض الحرية من قيود القمع الاستعماري الإسرائيلي البغيض. أمعنتُ النّظر في تقاسيم وجوههم المقاومة، وفي محاولاتهم ضبط الدموع مع هذا الدفق من الحنين والمحبة التي تقف حواجز الاحتلال الأجنبي في طريق إيصالها إلى أهلنا المكافحين من أجل الحرية في فلسطين كلّ يوم. وتأملتُ هؤلاء الشباب الذين أمضوا سنوات من حياتهم في غياهب سجون الاحتلال، فوجدتهم ينضحون فكراً ويشعّون ذكاءً ويأسرونك بتواضعهم الشديد وأدبهم الجمّ. هكذا إذاً تختار قوات الكيان الغاصب خيرة شبابنا العربي في فلسطين والجولان، وتلصق تهم «الإرهاب» بهم لتحكم عليهم بالسجن والتعذيب أو الإعدام، وهذا ما فعلته قوات هذا النظام، الذي يطلق عليه الشموليون الغربيون اسم «واحة الديمقراطية» في الشرق الأوسط، على مدى العقود الماضية، فكلّفت هذه الأمة خيرة شبابها ومناضليها بسبب حروبه المتتالية، وأساليب الاغتيال والقمع والإرهاب المخابراتية التي يتّبعها.وكان اللقاء مفرحاً لأنه، ولبرهة من الزمن، اجتمع أربعة آلاف من ممثلي الأمة من كلّ اقطارها في استانبول كي يتفاعلوا مع الكلمة المقاومة تفاعل الرجل الواحد، ويرفضوا مخططات الذلّ والهوان رفضة رجل واحد، ويصفقوا عفوياً لكلّ ما يعزّز الشعور بالكرامة والاعتزاز، ويرفضوا عفوياً كلّ ما من شأنه تثبيت الذلّ وإطالة أمد الهوان. كان مفرحاً لأنّ الجميع التقوا وكأنهم لم يفترقوا أبداً، وكأنّ سايكس بيكو لم تكن موجودةً أبداً، فصفّقت حلب ودمشق لأريحا وغزّة، وعانقت بغداد نابلس ورام الله، والتقت الجزائر والقاهرة مع أبناء وبنات القدس الأبية، فكان اللقاء دليلاً قاطعاً على وحدة مشاعر هذا الشعب العربي المؤمن بوحدة مصير هذه الأمة مهما حاول البعض ان يروّجوا لنظرياتهم التقسيمية والتفريقية فإنّ إرادة الشعوب أقوى من أن تُقهر. كيف لا وهم جميعاً أبناء الضاد، وأبناء حضارة وأدب وفنّ تتمازج ألوانه من المحيط إلى الخليج بألوان قوس قزح زاهية باعثة على الأمل بمستقبل أفضل. وكان مفرحاً أيضاً لأنّ رجال الدين الإسلامي والمسيحي القادمين من القدس تحدثوا عن وحدة الأرض والثقافة والمعاناة والمصير، وكانوا جميعاً أبناءً خُلّصاً لفلسطين وشعبها ومستقبلها. وكان مفرحاً أيضاً أن نرى عزيمة هؤلاء الذين تعرّضوا لأبشع أنواع القمع الإسرائيلي عزيمةً لا تلين، حيث لم يزدهم الاحتلال إلا تمسّكاً بعروبتهم وهويتهم وتراب أرضهم المقدّس. لا بل زادهم الاحتلال تقديساً لذلك التراب الذي اصطحبوا حفنات منه ليوزعوها على من يحلم بزيارة الأرض المقدّسة ويقف الاحتلال الإسرائيلي حائلاً دون ذلك.وكان اللقاء محزناً لأنّ شهادات المقدسيين استعرضت عمليات التهويد المستمرّة، وتدمير المنازل، والهدم الصامت للمنازل الفلسطينية والذي لا تتناوله ولا تسجله وسائل الإعلام «الحرة» في الغرب «الديمقراطي» جداً، بحيث يمكن لنا أن ندرك خطورة ما يجري إذا تذكرنا أنه في عام 1967 لم يكن هناك أي مستوطنة في شرق القدس، أما الآن فهناك 59 ألف وحدة سكنية للإسرائيليين يقطنها 160 ألف مستعمر يهودي. كما ترافق ذلك مع إصدار قوانين
عنصرية بحقّ الفلسطينيين بحيث يمنع على الفلسطينيين أن يزداد عددهم عن 23 من سكان القدس. وتحدث المقدسيون عن لعبة ما يسمى بالتراخيص بحيث لا تمنح سلطات الاحتلال «تراخيص» بناء للفلسطينيين، وحين يبنون تهدم منازلهم. كما أنّ سلطات الاحتلال بدأت تفرض ضرائب هائلة على العرب من أصحاب المحلات والبيوت، وغرامات بمناسبة ودون مناسبة لتوصل الفلسطينيين إلى حالة من الإفلاس والتسليم بما لديهم من ممتلكات التي يتمّ تهويدها وطمس هويتها العربية والإسلامية. كما تحدث المقدسيون عن الآثار الاجتماعية والنفسية لإجراءات الاستعمار التهويدية هذه على الأسر والشباب العرب الذين يعانون من البطالة ومن أزمة الهوية، بحيث بدأت تظهر مشاكل إدمان لدى الشباب في مجتمع مقدسي محافظ لم يكن لهذه الظاهرة وجود في تاريخه. تذكّرتُ وأنا أستمع لهذه المعاناة الإنسانية المروّعة ما يتحدّث به الأستراليون البيض عن سكانها الأصليين من الأبورجينز بأنهم مدمنون، وأنّ الحكومة تحاول معالجة هذه المشكلة دون أن يذكر أحد أنّ الأبورجينز لم يكونوا يعرفون الكحول أو المخدرات لولا إجراءات المستعمرين الغربيين الذين دفعوهم دفعاً إلى هذا الأسلوب من الحياة بعد أن تم الاستيلاء على أرضهم ومياههم وتم عزلهم في مجتمع أبيض صرف كما يريد أولمرت الآن اسرائيل «دولة يهودية» صرفة تم بناؤها على أنقاض شعب فلسطين ويعمل الإسرائيليون ما عمله الأبارتيد والبيض للأبورجيز حين اتخذوا من الواقع الذي خلقوه لهم مبرراً لممارسة ضغوط أخرى عليهم، وفرض إجراءات عنصرية إضافية من خطف أطفالهم، إلى احتجازهم في مخيمات غير لائقة بالبشر وحرمانهم من معظم حقوقهم المدنية.كما تحدّث المقدسيون عن اقتلاع اليهود للأشجار الفلسطينية، بحيث اقتلعوا إلى حدّ الآن اكثر من مليون ونصف شجرة، واستولوا على معظم الأراضي الزراعية الجيدة، وعلى آبار المياه ليمنعوا الفلسطينيين من الزراعة والعيش الكريم كما منعوا الفلسطينيين من الوصول إلى الغابات والمحميات، وحرموهم من معظم مياههم بحيث لا يتمكن الفلسطينيون من استخدام أكثر من 15 من مياههم، كما أنّ 50 من شبكة المياه تالفة أو شبه تالفة لإجبار المقدسيين على هجرة المدينة القديمة، وتشكيل حزام البؤس والفقر أو الهجرة خارج فلسطين، وهاهو أولمرت يعلن أنّ هدف مؤتمر أنابوليس هو ان تكون إسرائيل«دولة يهودية». وهذا بالضبط ما تعمل إجراءات الاحتلال على تثبيته وهو طمس هوية فلسطين العربية، ومحو الإسلام منها، وذلك بتهويد مدنها وقراها، وصولاً إلى تهجير ما تبقى من عرب فلسطين ضمن قوانين عنصرية فاقت قوانين الأبارتيد عنصرية. ولكنّ المشجّع، رغم كلّ هذا الواقع المرير، هو الوعي الذي تشكّل لدى كلّ الحريصين من شرفاء العالم على قضية شعب فلسطين، وهو وعي يحاول تثبيت حقوق السكان العرب الأصليين في فلسطين في وجه هذه الحملة الشرسة من التهويد والمتزامنة مع حرب دعائية ضد العرب المسلمين على مستوى العالم تذرّ الرماد في العيون باسم «مكافحة الإرهاب» أو نشر «الديمقراطية» في الشرق الأوسط، وتمنع الآخرين من رؤية ما يجري فعلاً على أرض الواقع. ويقترن هذا مع الافتقار لآليات إعلامية حديثة وفاعلة على المستوى العربي توصل الصوت العربي والحقّ العربي إلى ضمير العالم. والمشجّع في الأمر هو أنّ الحضور من كلّ أنحاء العالم أخذوا يؤكّدون أنّ قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية لم تعد قضية عربية فقط وإنما هي قضية دولية وإنسانية، وهي قضية عدالة وحقوق شعب أصلي تمتهن على مسمع ومرأى العالم «المتحضر» برمّته. فقد أكّد أكثر المتحدثين أن الخطوة المطلوبة اليوم هي وضع قضية فلسطين والأراضي العربية المحتلة وقضية الأسرى والشهداء على جدول أعمال «الأسرة الدولية»، وأنّ البداية يجب أن تكون بالوقوف كلما اجتمعنا في أيّ اجتماع رسمي أو أهلي «دقيقة غضب» ضدّ إجراءات الاحتلال الإسرائيلي المذلّة كي نلفت نظر العالم إلى العمل معنا ضدّ هذه الاستباحة للكرامة البشرية، والاستهانة بحقوق ملايين البشر في غزّة والضفة وفلسطين كلها والجولان. الدعوة إلى الغضب هي دعوة عامة للخروج من حالة اليأس والعجز التي يشعر بها الكثيرون. كما دعا الكثيرون إلى وضع آليات عمل حقيقية للانتقال بالمقاومة من القول إلى الفعل، وكانت الاقتراحات عملية وقابلة للتطبيق. هناك شعور طاغ بأنّ الاستعمار الإسرائيلي يستخدم عامل الزمن الذي استهلكه الرسميون العرب بالاجتماعات والنقاشات والإعلانات والبيانات، وأنّ الوضع أصبح ملحاً لوضع آليات عمل والمباشرة فوراً في تنفيذها لدرء المزيد من الأخطار على هوية قدسنا وأرضنا وشعبنا العربي في فلسطين المقاوم لأبشع احتلال عنصري عرفته البشرية. هل تبدأ الصحوة الإنسانية تجاه فلسطين بدقيقة غضب؟ نأمل ذلك.
Leave a Reply