صدفة، في إحدى المناسبات، جمعتني بمعلمة مدرسة تعلم الصبيان والبنات، ما لا يعلم من علوم الاجتماع واللغة العربية، بعدما حصلت على شهادة “حضانة” من إحدى الجامعات في هذه المواد أكسبتها غرورا.
دار الحديث بنبرة العتاب والعقاب لي، لأني أحن وأكتب تكرارا عن القرية وكأنها المدينة الفاضلة، الخالية من الجهل والتخلف والأمية، واتهمتني بالحنين الفاضي للماضي، وعدم الانتباه لعصرنا المتطور والمتقدم بفضل أصحاب الشهادات العليا أمثالها وحاملي الماجستيرات في العلوم والطب والاقتصاد والهندسة.
حقيقة قالت محدثتي كلاما يزن تلالا وجبالا، ولو أنه كان دولارات ومالاً لكفى الزعماء والرؤساء عندنا في لبنان، ووفر عليهم ما يقاسونه من عناء في خدمة الوطن والمواطنين ومشاريع رجال العمران التي تخرب الطبيعة الأزلية في خدمة المنشآت التجارية الاحتكارية، والخضروات المزروعة على الأسمدة الكيمياوية، تماما مثل هذه المواد الخضراء والزرقاء والرمادية التي وضعتها الدكتورة حول محجريها لتبرز عينيها.
طاب لها الكلام والجدال العقيم مثل أصحاب الرأي والرأي الآخر على مجاري الفضائيات العربية رغبة منها في تنبيهي وتوعيتي ولفت نظري للحاضر المشرق بفضل العلم وحاملي الشهادات و”الدكاتير” فطالت الأعمار وقصرت المسافات.
هزت الدكتورة رأسها طربا وغرورا حين وافقت على كلامها وقلت لها أن كلامها ربما ينطبق هنا في بلاد الاغتراب. وتابعت كلامي: “بودي أن أسألك سؤالا حول هذه الشهادات العالية في بلادنا وحول حامليها في مختلف المجالات وما اليها: هل تقدمنا بفضل هذه الشهادات أم تأخرنا”؟
أجابت: طبعا تقدمنا كثيرا جدا..
وهل أصبحنا نحن اللبنانيين أسعد حالا وأهدأ بالا؟
أجابت: لا قياس لذلك..
يبدو أن حديثها راق لأحد الحاضرين، الذي كان يسمع كلامنا، وطلب ببساطته وطيبته أن نسمح له بالتعليق على نقاشنا، فسأل الدكتور في علم الاجتماع والتعليم:
هذه الأيام عندنا في قرى لبنان حوالي ألف رأس غنم وألفي رأس بقر وحوالي ثلاثة ألاف رأس من الخرفان وعندنا أقل من ألف رأس من الخيل، فماذا تكون المجموعة؟
وبطبيعة العالم الفاهم أجابت الدكتورة: بأنه لا يجوز في علم الحساب أن نجمع البقر والخراف والأحصنة الى البقر والماعز. قال لها جمعيها تعد على أنها من المواشي. كان المجموع سبعة آلاف رأس. سألته باستهجان “ما علاقة هذا الحساب بالموضوع الرئيسي”؟
بكل ثقة وبصوته الثمانيني وابتسامته الصافية وإحساسه الصادق بحرارة الحياة ولوعة الواقع، أجاب:
تصوري أنه كان عندنا، في أيام أهلنا، سبعمئة ألف رأس من الماشية، وسبعة رؤوس فقط من حملة الشهادات العالية. وكان أهلنا وكنا نعيش في منتهى السعادة، أما في هذا الزمن ليس عندنا سوى سبعة آلاف رأس من تلك المواشي والتي تدل كثرتها على التخلف والجهل، بينما يتكاثر فيه بيننا أكثر من مئة ألف رأس من حملة الشهادات العالية وحيثما نمشي نصطدم بـ”الدكاتير”. دكاتير في الأدب، دكاتير في التاريخ والاجتماع والطب والموسيقى. دكاتير على مد عينك والنظر، فشو رأيك بهذا التقدم العظيم والسعادة الأعظم عندنا في لبنان، وهؤلاء الدكاترة هم أصل الوجع والبلاء.
Leave a Reply