صبحي غندور
الأمّة العربية تعاني الآن من حروبٍ أهلية ومن تنافس القوى الدولية الكبرى ومن وجود مشاريع «إقليمية» هامّة على جوارها، وفـي قلبها المحتلّ إسرائيلياً. لكن الأزمات العربية المشتعلة الآن سببها أصلاً وأساساً حال الضياع والفراغ فـي الأمّة، والانشداد والاستقطاب القوي الحاصل لصالح المشاريع الدولية والإقليمية، دون وجود حدٍّ أدنى من رؤية عربية مشتركة، أو «مشروع عربي» يملأ هذا الفراغ الحاصل منذ منتصف سبعينات القرن الماضي بالمنطقة، حينما غادرت مصر دورها الطليعي العربي، ولم تعد بعدُ إليه منذ معاهدات «كامب ديفـيد».
الأمّة العربية بحاجة إلى مصر التي عرفها العرب فـي منتصف القرن العشرين، والتي كانت تقود نفسها وجوارها العربي والإفريقي والآسيوي فـي معارك التحرّر الوطني من قوى الاستعمار والهيمنة الأجنبية.
الأمّة العربية بحاجة إلى مصر التي كان أزهرها الشريف ينشر تعاليم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف فـي كلّ أنحاء العالم، بعيداً عن التطرّف والتعصّب وجهل الفتاوى.
الأمّة العربية بحاجة إلى مصر التي كانت فـي مقدّمة دول المنطقة والرائدة لقضاياها القومية والوطنية، والحاضنة لصيغ ومؤسسات العمل العربي المشترك، والفاعلة الأولى فـي معالجة الأزمات العربية.
الأمّة العربية بحاجة إلى مصر التي كانت مصر كلِّ العرب.
لكن مصر مشغولة كثيراً خلال هذه المرحلة بأمورها الداخلية، فـي منطقةٍ لا تنتظر الأحداث فـيها «عودة مصر» بل يُحاول البعض استباق عودتها بترتيب أوضاع كيانات وأوطان وأنظمة تُحيط بمصر جنوباً وغرباً وشرقاً.
من غير المعلوم بعد كيف ستكون الأوضاع فـي محيط مصر العربي خلال المرحلة القادمة، وكيف ستتغيّر الأوطان وموازين القوى على الأرض، ومن الذي ستدعم القوى الخارجية استمراره ومن ستحاربه، فـي منطقة تُراهن إسرائيل على بقائها ضعيفةً متصارعة مع نفسها، ومشلولٌ قلبها المصري وعاجزٌ عن الحركة خارج حدوده!.
وكم هو ساذجٌ من يعتقد أنّ القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة، بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسؤول الأول عن تخلّفها وعن أنظمتها وعن تقسيمها، ثمّ عن زرع إسرائيل فـي قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها، وعن استنزاف الدول المجاورة لها فـي حروبٍ متواصلة. وقد كان بعض هذه الدول الكبرى مساهماً فـي تأسيس النواة الأولى لجماعات التطرّف والإرهاب بالعالم الإسلامي، ثمّ فـي تسهيل وجود هذ الجماعات وانتشارها بدول المشرق العربي. وهاهي الآن، هذه الدول الكبرى، تتحدّث عن أمن وحرّية ومصالح الشعوب العربية بينما ما يزال مرفوضاً لديها حدوث أي انتفاضة فلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فكيف بمقاومته عسكرياً، فـي حين شجّعت هذه الدول بعض شعوب المنطقة على استخدام العنف المسلّح من أجل تغيير حكوماتها!.
قد يعتبر البعض أنّ الإشارة الآن إلى حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي هي مجرّد حنين عاطفـي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود، بينما يُغرق هذا البعض الأمَّة فـي صراعاتٍ وخلافاتٍ سياسية ومذهبية عمرها أكثر من 14 قرناً، ونتائج تلك الصراعات لن تكون إعادة نهضة الأمَّة العربية، بل تقسيمها إلى دويلات طائفـية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون «الدولة اليهودية» نموذجاً لدويلاتٍ دينية ومذهبية منشودة فـي المنطقة كلّها!. فاليوم تشهد كل بلاد العرب «حوادث» و«أحاديث» طائفـية ومذهبية وإثنية لتفتيت الأوطان نفسها، لا الهويّة العربية وحدها.
إنّ استذكار حقبة جمال عبد الناصر فـي مصر ليست ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل أو حنيناً لماضٍ يفتقده عشرات الملايين من العرب، بل هو دعوةٌ للمقارنة بين نهجٍ ساد فـي العقود الأربعة الماضية، مقابل نهج «ناصري» واجه أزماتٍ أكبر، داخلياً وخارجياً، وواجه صراعاتٍ لم تزل مستمرّة منذ منتصف القرن العشرين، لكن لم تشهد الأمّة العربية حينما كانت مصر تقودها ما تشهده الآن من انقساماتٍ وتفتّتٍ وذلٍّ وهوان.
لقد استطاع جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي أن يحقّق، للمرّة الأولى فـي تاريخ العرب الحديث، صحوةً عربية تؤكّد ضرورة التحرّر الوطني والاستقلال القومي والانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى وحدةٍ وطنية شعبية فـي كلّ بلدٍ عربي، وإلى استخدام الوسائل السلمية فـي التغيير وفـي الدعوة للوحدة العربية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة فـي الأطر كلّها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وصحيحٌ أنّ «مرحلة ناصر» انتهت منذ أكثر من أربعة عقود، لكن دروسها للحاضر والمستقبل ما زالت قائمة، فالهُويّة العربية هي حالة انتماء لكل العرب ولم يخترعها جمال عبد الناصر، وهي ليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته ليختلف بشأنه العرب، بل هي هُويّة ثقافـية مشتركة لكلّ سكّان الأمّة العربية بغضّ النظر عن طوائفهم ومذاهبهم وأصولهم الإثنية. ثمّ أنّ أيَّ حلمٍ بنهضة عربية شاملة يحتاج تحقيقه إلى دورٍ مصريٍّ فاعل، وإلى تكاملٍ بين وضوح الهويّة العربية وبين البناء الديمقراطي السليم وبين الحرص على أولوية التحرّر الوطني واستقلالية القرار السياسي عن ضغوطات «الخارج» أو الحاجة إليه!.
تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت فـي المنطقة العربية وجوارها الإقليمي فـي العقود الأربعة الماضية، منذ خروج مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي، كان منها إمّا ما هو بفعل إراداتٍ وظروفٍ محلية، أو بسبب تخطيطٍ وعدوانٍ خارجي، أو مزيجٌ من الحالتين معاً.
والأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سلبيّات العقود الماضية، وأخطر هذه السلبيّات هو تصاعد دور الطائفـيين والمذهبيين والمتطرّفـين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلدٍ عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية. فليست الظروف الداخلية فقط هي وراء عناصر الصراعات فـي هذا البلد وذاك، بل يلعب أيضاً التدخّل الدولي والإقليمي دوراً هاماً فـي تقرير مصير بعض البلدان العربية.
إنّ الصراعات الداخلية الدموية الجارية الآن فـي أكثر من بلدٍ عربي، وبروز ظاهرة «داعش» وأعمالها الإجرامية التقسيمية للأوطان وللشعوب، لم تصل بعدُ كلّها بالعرب إلى قاع المنحدر، فما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم. لكن وجود هذه المخاطر فعلاً، وما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو «الهُويّات الإثنية» يجب أن يكون، هو ذاته، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب فـي الفكر والممارسة، فـي الحكم وفـي المعارضة.
إنّ العرب كلّهم فـي سفـينة واحدة مهما اختلفت درجاتهم وممتلكاتهم ووظائفهم على هذه السفـينة، ومصر هي الربّان فـي هذه السفـينة، وبتعطيل دورها حصل التيه وسط الرياح والأمواج العاتية ودار الصراع على من يقود السفـينة، وغابت أيضاً البوصلة السليمة التي لا تتوفّر إلاّ بوجود قيادة سليمة لمصر نفسها، وهذا ما كان مفقوداً منذ توقيع المعاهدات مع إسرائيل.
أيّها المصريون.. أعيدوا لمصر ولكلّ العرب، مصر التي نفتقدها منذ أربعة عقود.
مصر التي قوّتها فـي عروبتها، والتي أمنها لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها وعن وادي نيلها الممتد فـي العمق الإفريقي. مصر العربية التي ترفض الإنعزال والفئوية والتي لا تقبل أن تستنزفها صراعاتٌ عُنفـية أو أيديولوجية، ولا تلهيها أوضاع إقتصادية أو معارك هامشية عن استعادة دورها القومي المنشود.
Leave a Reply