صبحي غندور
الإنسان العربي المعاصر هو الآن إنسانٌ تائه، رغم ما حصل من تقدّم فـي العلوم والمعرفة. فلا هو يعرف إلى أين يسير مستقبله، ولا حتّى مصير وطنه وأرضه ومجتمعه. هو شعور بالتّيه يسود معظم شعوب المنطقة العربية، فالحاضر مذموم والغد مجهول. لا الوطن هو الوطن المنشود، ولا الغربة هي الوطن البديل إذا غادر أرض الوطن!.
أيضاً، الإنسان العربي يعاصر اليوم عالماً فـيه هيمنة كاملة للمصادر «المعلوماتية» على عقول الناس ومشاعرهم ومواقفهم. فالناس فـي زمننا الحالي، وبمختلف المجتمعات، نادراً ما يتعمّقون فـي معرفة الأمور ويكتفون بالمعلومات السريعة عنها، بل أصبحت عقول معظمهم تعتمد الآن على البرامج الإلكترونية، حتّى فـي العمليات الحسابية البسيطة، وأصبحت آليات هذه البرامج هي صلات التواصل بين البشر بدلاً من التفاعل الشخصي المباشر، وكذلك ربّما فـي المنزل نفسه أو بمكان العمل المشترك.
كانت العصور القديمة تتميّز بوجود مجالس «الحكماء» الذين يشيرون على الحاكم بما هو الأفضل من الخيارات قبل اتّخاذ القرارات. الآن، أصبحت أجهزة المخابرات المعتمدة على «المعلومات» هي مصدر «إلهام» الحكّام فـي العالم عموماً.
وما يصنع «رأي» الناس فـي هذا العصر هو «المعلومات» وليس «العلم» و«المعرفة»، وهذا ما أدركه الذين يصلون للحكم أو يسعون إليه، كما أدركته أيضاً القوى التي تريد الهيمنة على شعوبٍ أخرى أو التحكّم فـي مسار أحداثها.
هنا أهمّية «المعرفة» التي يضعف دروها يوماً بعد يوم، وهنا أيضاً أهمّية «الحكمة» المغيَّبة إلى حدٍّ كبير. فبوجود «المعرفة» و«الحكمة» تخضع «المعلومات» لمصفاة العقل المدرِك لغايات «المعلومات» ولأهداف أصحابها ولكيفـيّة التعامل معها. فـ «المعلومات» قد تجعل الظالم مظلوماً والعكس صحيح، وقد تُحوّل الصديق عدواً والعكس صحيح أيضاً. لكن «المعرفة» و«الحكمة» لا تسمحان بذلك.
فـي الطب مثلاً، كانت «الحكمة» هي الأساس فـي معرفة الأمراض ومعالجتها، فكان «الطبيب» هو «الحكيم»، ثم تطوّر العلم وأصبح الطب «معرفة» يتلقّاها الدارسون فـي هذا الحقل، حتى أضحى الطب اليوم «حقل اختصاص محدّد» يقوم على «معلومات» خاصة بجزء صغير من جسم الإنسان، لا على معرفة عامّة بكل الجسم وتفاعلاته المشتركة. وهكذا هو الحال تقريباً فـي عموم العلوم الآن، حيث «الاختصاص» يعني مزيداً من «المعلوماتية» وقلّةً من «المعرفة» العامة، وربّما انعداماً لـ «الحكمة» التي هي نعمةٌ من الخالق اختصّ بها بعض البشر.
***
إنّ بلدان المنطقة العربية تعاني الآن من حالٍ خطير يتمثل فـي هبوط مستوى العلم والتعليم والمعرفة. فالأمر لم يعد يرتبط فقط بمستوى الأمّية الذي يزداد ارتفاعاً فـي عدّة بلدان، بل أيضاً بانحدار مستوى التعليم نفسه، وبهيمنة فتاوى ومفاهيم دينية تُعبّر عن «جاهلية» جديدة تُخالف حقيقة الدين ومقاصده.
فمشكلة البلاد العربية، والعالم الإسلامي عموماً، ليست فـي مواجهة الجهل بمعناه العلمي فقط، بل أيضاً فـي حال «الجاهلية» التي عادت للعرب والمسلمين بأشكال مختلفة، وعلى مدى قرون من الزمن توقّف فـيها الاجتهاد وسادت فـيها قيود فكرية وتقاليد وعادات ومفاهيم هي من رواسب عصر «الجاهلية».
هنا تصبح مسؤولية الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، لا فـي تحسين مستويات التعليم ومراكز البحث العلمي فقط، بل بالمساهمة أيضاً فـي وضع لبنات لنهضة عربية جديدة، ترفع الأمّة من حال الانحطاط والانقسام والتخلّف إلى عصر ينتهج المنهج العلمي فـي أموره الحياتية ويعتمد العقل والمعرفة السليمة فـي فهم الماضي والحاضر، وفـي بناء المستقبل، وفـي التعامل مع ما يُنشر من فتاوى ومسائل ترتبط بالعقائد الدينية.
قد يرى البعض أنّ حال الانحطاط فـي الأمّة هو من مسؤولية الخارج أو الأجنبي فقط، وقد يرى البعض الآخر أنّ تردّي أوضاع الأمّة هو نتاج محلي فقط.. لكن مهما كانت الأسباب، فإنّ النتيجة واحدة، وهي تحتّم تغيير حال الأمّة واستنهاضها من جديد على أسس تحفظ لها وحدة أوطانها، وتُحقق التكامل بينها، وتضمن العدل والحرّيات لشعوبها، لكن تحقّق أيضاً تقدّمها وتطوّرها المنشود المبني على ثقافة عربية ذات مضمون حضاري قائم على مزيج من العلم والمعلوماتية والمعرفة والحكمة معاً.
فهناك من يعتقد بوجود «تنوّع ثقافـي» فـي المجتمعات العربية، بينما الصحيح هو وجود ثقافة عربية واحدة تقوم على أصول ثقافـية متعدّدة فـي المجتمعات العربية، إذ أنّ الثقافة العربية منذ بدء الدعوة الإسلامية على الأرض العربية، وباللغة العربية، ومن خلال روّاد عرب، أصبحت ثقافةً مميّزة نوعياً عن الثقافات الأخرى فـي البلاد الإسلامية، وفـي العالم ككل. فالثقافة العربية ارتبطت بالدعوة الإسلامية وبالمضمون الحضاري الإنساني العام الذي جاء به الإسلام وحرّرها من اشتراط العرق أو الأصل القبلي أو الإثني، وجعلها ثقافةً حاضنة واستيعابية لثقافاتٍ محلّية ولشعوبٍ تنتمي إلى أعراق وأديان مختلفة.
صحيح هناك «تنوّع ثقافـي» فـي العالم الإسلامي لكن ليس فـي المجتمع العربي، فهناك «تنوّع ثقافـي» دائماً تحت مظلّة أيّة حضارة. إذ أنّ الحضارات تقوم على مجموعة من الثقافات المتنوعة، وتكون فـيها ثقافة رائدة كما هو حال الثقافة الأميركية الآن فـي الحضارة الغربية، وكما كان حال الثقافة العربية فـي مرحلة نشر الحضارة الإسلامية.
فالأمّة الأميركية هي الآن مجتمع مركّب من الأعراق والأديان والأصول الإثنية، لكن فـي ظلّ ثقافة أميركية واحدة جامعة تُعبّر عن هويّة أميركية يعتزّ بها الأميركيون بمختلف أصولهم. بينما البلاد العربية، والتي تملك أصلاً كل مقوّمات الأمّة الواحدة: (اللغة المشتركة – التاريخ المشترك – الأرض المشتركة- المصالح المشتركة والمصير الواحد)، فإنّها تعاني من حال الانقسامات والصراعات الداخلية التي تُهدّد وحدتها الوطنية، فكيف بهويّتها العربية المشتركة التي يخجل بعض العرب حتّى من الاعتراف بها! وهذا ما يُضعف الآن قضية الانتماء إلى ثقافة عربية واحدة مشتركة، وهذا ما يتطلّب أيضاً الانتباه إلى التلازم الذي يحصل دائماً بين ضعف «الهويّة العربية» وبين حال الانحطاط فـي أوضاع البلاد العربية .
عاملٌ آخر يزيد الآن من مآساة «الجهل والجاهلية» فـي المنطقة العربية، وهو «نزيف الأدمغة العربية»، حيث ترتفع سنوياً نسبة هجرة الشباب العربي إلى الخارج واستقرار عددٍ كبير من الكفاءات العلمية العربية فـي دول الغرب. لكن المشكلة أيضاً ليست فـي «المكان» وأين هي الآن «الأدمغة العربية»، بل فـي دور هذه الكفاءات العربية وفـي كيفـيّة رؤيتها نفسها ولهويّتها، وفـيما تفعله أينما كانت لخدمة أوطانها. فقد كان لوجود عقول عربية وإسلامية فـي أوروبا وأميركا فـي مطلع القرن العشرين الأثر الإيجابي على البلاد العربية وعلى العالم الإسلامي، كما حصل فـي تجربة الشيخ محمد عبده وصحيفة «العروة الوثقى» فـي باريس، أو فـي تجربة «الرابطة القلمية» فـي نيويورك.
فالسفر والمهجر ليسا مانعاً من التواصل مع المنطقة العربية والأوطان الأصلية أو مع قضايا الأمّة عموماً، خاصّةً فـي عصر «العولمة» و«المعلوماتية» الذي نعيشه، بل على العكس، فإنّ الحياة فـي الخارج قد تتيح فرصاً أكبر للتأثير والفعالية فـي «المكانين» معاً.
هناك «عقول عربية» مقيمة فـي المنطقة العربية ولكنّها تخدم غير العرب، وهناك «عقول عربية» مقيمة فـي الخارج لكنّها فـي ذروة عطائها للحقوق والقضايا العربية. فالمشكلة هنا هي فـي تعريف النفس وتحديد الهُويّة والدور، وليست فـي عدم توفّر المستوى العلمي الجّيد بل بغياب المعرفة التي تدفع أصحابها إلى الالتزام بخدمة قضايا أوطانهم وأمّتهم. فكم من أمّيٍّ (غير متعلم) يُحقق لنفسه المعرفة ويخدم التزاماتها، وكم من متعلّمٍ حائزٍ على شهادات عالية لكنه أسير عمله الفئوي فقط، ولا يُدرك ما يحدث حوله ولا يُساهم فـي بناء وتطوير معرفته وآفاقه الفكرية، ويكتفـي بأن يتّبع «صاحب طريقة» أو حامل «كتاب تفسير» فـيه الكثير مما لا يقبله العقل ولا الدين نفسه. فهذا هو الفرق بين «العلم» و«المعرفة»، كما هو الفرق بين «الجهل» و«الجاهلية»!.
Leave a Reply