ليس من الضروري أن يكون كلامي مقبولاً،
من الضروري أن يكون صادقاً… (سقراط)
من غياب الوعي الشعبي
الى غياب إلتزام النخب والمثقفين
لطالما تذمرت النخب العربية المثقفة من تدني الوعي السياسي الشعبي، وخنوع واستسلام الشعوب العربية للحكام والسلاطين رغم جورهم واستبدادهم وفسادهم، وساد التشاؤم، بل وأحيانا القناعة، بإستحالة قيام أي تحرك أو تمرد شعبي للمطالبة ولو باصلاحات سياسية بسيطة، فما بالك بقيام تحرك ثوري يهز عروش الأنظمة العربية المزمنة.
وكان الحديث يدور دوماً حول حالة الوعي بضرورة التغيير لدى النخب العربية في مقابل استمرار ضعف وعي الشعوب حيال دورها في مساندة قياداتها ونخبها والاصطفاف وراءها للنهوض بأعباء تغيير منظومة الدول العربية المهترئة. كان تأخر قيام أيّ تغيير، سواء كان ضمن مطالبات إصلاحية أو كان ضمن تحرك ثوري، تُلصق أسباب فشله دوما بضعف الارادات الشعبية وعدم وعيها. هكذا كانت النخب العربية تأوّل أو تفسّر أسباب استمرار الأنظمة الفاسدة في المنطقة. الإشكال كان دوماً يسوّق على أنّه خلل قائم بين نخب واعية ومتحفزة لقيادة التغيير وشعوب غير واعية بأوضاعها المتدهورة وخانعة لها.
الشعوب المقهورة والمستضعفة كانت الشماعة التي علّق عليها المثقفون والنخب العربية أسباب الفشل في كل مرة يقوم فيها حديث عن أسباب تأخر التغيير في المنطقة العربية، إلاّ أنّ تلك الشعوب فاجأت الجميع ولم تكتف بالمطالبة بالاصلاحات بل ذهبت الى حدّ إسقاط أنظمة كان يعتقد أنّها عصية ومنيعة، لكن المفاجاة الكبرى، أو خيبة الأمل، هذه المرة كانت في غياب النخب المثقفة والتي كانت الى حدود تلك الفترة تقدم نفسها قائدة لكل تحرك أو تغيير شعبي ممكن.
نعم، نهضت الجماهير وغابت النخب وصدق فيها قول الشاعر أحمد فؤاد نجم: يعيش المثقف على مقهى ريش/محفلط مزفلط كتير الكلام/عديم الممارسة عدو الزحام/بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح/يفبرك حلول المشاكل أوام..
هكذا كان كثير من مثقفين ونخب العرب السياسية للأسف الشديد، كثيري الكلام والتنظير، إلاّ أنّ ما حصل بالمنطقة عرّى الكثيرين منهم وكشف أننا نمتلك فعلا مثقفين ونخب سياسية لكن برتبة نعامة، لأنّه عندما تحركت الجماهير وبذلت نفوسها من أجل التغيير اخفى المثقفون ونخب السياسة رؤوسهم في انتظار ما سيكشف عنه غبار المعركة لينحازوا طبعاً ودوماً للمنتصرين وليخرجوا على الشاشات ليشنفوا آذاننا بتحاليلهم المعلبة والجاهزة دوماً.
مثقفونا أو من يعرفون بالأنتلجنسيا أو النخب العربية السياسية، وبعد أن تأخّر كثير منهم عن معارك التغيير التي خاضتها الشعوب العربية بالنفس والنفيس، تقدموا بعد ذلك ليتقاسموا المغانم، وكشفت المرحلة الجديدة عن خارطة جديدة لمثقفينا الذين لم يشذ قطاع هام منهم عن إنتهاج سياسة القاعدة الانتهازية “داخلين في الربح خارجين في الخسارة”.
مثـقّـفـو الأزمـة
لم تغير الثورات والانتفاضات للأسف الشديد كثير من حال بلداننا العربية بل لقد خلقت وفي كثير من بلدان الربيع العربي ولأسباب داخلية وخارجية أوضاعا مأزومة، خلقت هي الأخرى بدورها تجاذبات وتقاطعات سياسية لعبت بها المصالح المحلية والاقليمية والدولية، ولم يكن مثقفونا ونخبنا السياسية ببعيدين عما يجري وأدلى كثير منهم بدلائهم، بعضهم في مياه عكرة وآسنة وبعضهم في مياه صافية ونقية، ولكن وفي كل الاحوال لعبت تلك النخب السياسية العربية، ولازالت، أدواراً هامة ومتفاوتة سلباً وإيجاباً، كانت وسيكون لها أثر بيّن على مستقبل البلدان العربية على مدى مستقبلها المنظور والبعيد.
مثقفون في ظلال الشيطان
تميزت مرحلة ماقبل ثورات الربيع بحالة من الانغلاق والاستبداد، حيث سادت أغلب البلدان العربية، حالة قمع مطبق لم يفرّق الحكام فيها بين السياسي والثقافي والاثنولوجي مما زاد من حالة الكبت التي كان يشعر بها كل العرب من عامة الشعب، وخاصة النخب والمثقفين السياسيين. فلقد واجهت الأنظمة العربية، التي كان أغلبها مرفوضاً بشدة شعبياً، وقمعت كل تحرك أو مطلب، حتى وإن لم يكن سياسياً، أو كان مجرد حالة لمحاولة التعبير عن الخصوصية الثقافية أو الإثنية. وبمجرد تخلخل الانظمة العربية أو سقوط بعضها أطلّت الفتنة برأسها ليساهم في اشعالها بعض المثقفين الذين كُبتوا خلال فترات الحكم السابقة وتحولت حقوق التعبير عن الذات الثقافية والخصوصية الى دعوات شوفينية وعنصرية وتحريض ضد الآخر مما خلف كثير من المآسي والقتل على الهوية وتدمير الممتلكات انتقاما من اصحابها “المُختلفين”. تلك الاعمال التي كان وراء اشعالها، للأسف الشديد، مثقفون ونخب سياسية التي بدلا من أن تجنب شعوبها النار التي إكتوت بها من قبل الأنظمة السابقة، وتعمل على أن تؤسس لمجتمع جديد مبني على حق الاختلاف والتعبير عن الخصوصية الاثنية والثقافية والجهوية اخطأت الهدف وبادرت الى غير ذلك ممارسة ما يمكن ان نسميه “الإنتقام الثقافي” والمذهبي.
ولا يمكن تفسير الشحن المذهبي، بما ذهب إليه المؤرخ إبن خلدون، في كتابه “المقدمة” عندما تناول الحديث عن دور العصبية الدينية والقبلية في نشوء الدول وانتقالها من عصبية الى أخرى، وذلك بسبب أن اللاعب الأساسي في ثورات الربيع، لم يكن العصبيات المحلية، بل كان العامل الخارجي والإقليمي الذي كان يوظفها ويحركها تبعاً لمصالحه.
لقد استطاعت القوى الإقليمية والدولية المعادية لمصالح شعوب المنطقة ان تحول حركة الثورات عن اهدافها وهي تحقيق النماء والرخاء والتضامن والتوحد الى حركات هدامة زادت الى أزمات المنطقة السياسية والاقتصادية ازمات جديدة مثل العنصرية والطائفية، مما ينذر بتفجر المنطقة وتفتيتها على اسس طائفية ودينية. كان على المثقفين والنخب السياسية التي اصطفت الى جانب طوائفها لتحرّض ضد الطوائف الاخرى وتزيد من الشحن والصراع ان تدعو ابناء الجلدة الواحدة والوطن الواحد الى الإصطفاف تحت سقف الوطن عوضاً عن الإصطفاف في ظلال الشيطان سواء كان شيطانا من بني إبليس، أو كان شيطانا من الإنس من بني قيس أو تميم أو كنانة أو مُرّة.
جاء في صحيحي البخاري في بعض حديث حذيفة بن اليمان لما سأل رسول الله (ص) عن أهل الفتنة “… قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت : يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا “، أي والله من جلدتنا وفعلا يتكلمونا بألسنتنا. كما قال (ص) “الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”.
مثقفون في ديوان السلطان
وإن كان بعض المثقفين من أهل الشرور والفتن زاغوا عن مهمة قيادة شعوبهم الى بر الأمان وقادوهم ليجتمعوا بهم في ظلال الشيطان، هناك جماعة اخرى من سياسيي ومثقفي العرب تعرف من أين تأكل الكتف دأبت على خدمة السلطان فهي جماعات مرسّمة في دواوين عطاءات السلاطين. هم جماعة تعرف حدودها، يمّمت وجهها شطر بلاد البترودولار، ترتزق بالمديح، بارعة في خدمة البلاطات، تتلون حسب الطلب وتشير بالشيء وضده ان اقتضت الضرورة والمصلحة، فهم من يصدق فيهم قول فؤاد نجم: “يتمركس بعض الايام/يتمسلم بعض الايام/ ويصاحب كل الحكام وبسطاعشر (١٦) ملة”.
هذه الجماعة أغلبها من “المثقفين نص كم”، أي من فئة ليست ذات أي مبدأ ويمكنها الاندماج مع مجموعات أخرى حتى وإن اختلفوا دينياً أو مذهبياً أو اثنياً لا يهم المهم هو المصلحة المادية وهي الجامع الأساسي الذي يجعلهم يعملون سوياً فغايتهم ليست خدمة شعوبهم أو العمل على توحيدها حتى وإن ادعوا ذلك، قد يكونون من مشارب وخلفيات شتى، رجال دين وليبراليين ويساريين وغيرو “مش فارقة معاهم”، قد ينضوون في منظمات أو مؤسسات أو مجالس لكتل متنافرة (حمص وزبيب)، “مَعليش”، المهم ماذا سيضعون في أرصدتهم بعد ذلك.
هذه الفئة من المثقفين هي التي نراها صباح مساء على كل الشاشات وعبر كل الوسائط الاعلامية تقدّم إلينا تحت أسماء ووظائف مختلفة من المحلل السياسي الى الإعلامي الى الكاتب والناشط، الى الشيخ والعالم والامام والمفكر، شخصيات يُسوّق لها وتُقدم للناس في شكل دعاة سلام أو ديمقراطية أو معارضين وطنيين وغيرها من النعوت التي يُسبغونها عليهم حتى يقع قبولهم كرموز ومراجع شعبية يسهل عليها “دمغجة” الشعوب وسحبها وتوجيهها عبر أجندات حيث تريد جماعات الضغط والمصالح واللوبيات.
لكن وسط هذه الانفاق المظلمة التي حُشر فيها العرب وأُريد لهم أن يتحركوا ويقرروا ضمنها مصير المنطقة يلوح ضوء ساطع في آخر كل نفق مظلم ليهدي من خلاله كثير من المثقفين والنخب والسياسيين الشرفاء الى شعوبهم مخرجاً الى النور، نور الحقيقة، بعيداً عن كل خداع وتزوير، نور بناء غد يصنعونه بأنفسهم وايديهم، غد فيه الخير لهم ولأبنائهم ومنطقتهم ولكل شعب يؤمن بمبادىء الديمقراطية الحقة وحقوق الإنسان، والأهم من ذلك غد يؤمن بحق كل الشعوب في تقرير مصيرها في ضوء النهار لا في السراديب المظلمة ووفق سيناريوهات ضالة ومضللة.
Leave a Reply