عباس الحاج أحمد
قبل حوالي ثلاثة أشهر، حملت حقيبة سفري واتجهت إلى الولايات المتحدة بطموحات جديدة.
غادرت لبنان ببعض الثياب والأغراض وصندوق من الذكريات والهموم الاجتماعية والفكرية مع روائح الشاي والقهوة في مدينة النبطية وأصوات الجماهير المتابعة لكرة القدم الشعبية، بالإضافة لصور عالقة في وجدان الشباب المتمرد على واقع الحال بعد مظاهرات عام 2015.
سمعت الكثير من الأحباء والأصدقاء عن تجارب الغربة الصعبة وحاولو إقناعي بأن خطوتي غير مدروسة إذ أن عملي وحياتي جيدة في لبنان. فلمَ المجازفة؟
لا شك في أن الطموح الكبير يحتاج إلى مجازفات كبيرة لتحقيقه. ولا جدال في أن النجاح يحتاج إلى وطن ودولة وبيئة مساعدة. ولكن، بكل تأكيد.. لبنان ليس المكان الذي تحيا به الطموحات الحرة خاصة العلمية.
من جهة أخرى، قد تميل الكفة لصالح البلد الأم بحاراته القديمة.. أرصفة العاصمة، الأسواق الشعبية ورائحة اللحم المشوي المشهورة في النبطية أو الكنافة التي لا تعلو عليها «حلاوة» أخرى. ولكن هذه الكفة قد تخسر أيضاً إن كانت وجهة السفر مدينة ديربورن ومحيطها، حيث تحمل بالحقيبة الحارات والطعام التقليدي وجلسات العجزة وأسماء الأماكن وحتى اللحم بعجين ومنقوشة الزعتر، يضاف إليها القهوة اليمنية والتاكو المكسيكي والبرغر الأميركي والباستا الإيطالية والمشروبات الإيرلندية والخبز الأثيوبي.. إلخ. مدينة تحمل مميزات اللبناني بخلطة ثقافية رهيبة تجمع بها حدوداً بعيدة وقارات مختلفة بشوراع ممتدة ما بين ديترويت وديربورن.
تتميز الجالية اللبنانية هنا بعدة مجالات، من أنواع السيارات إلى البناء والهندسة والطب والمحاماة وصولاً إلى المطاعم ومحطات الوقود. جالية، لها تاريخ كبير وخبرة واسعة. ولكن، كما هو حال الأوطان العربية الأم، تضعف قيمة الكتاب والمقالة والفكر بكل اتجاهاته أمام حجم استثمارات الجالية بمجالات أخرى. كما تظهر صراعات جانبية معيبة في ظل مجتمع حر قد يصنع التكاتف فيه قوة مهولة كما تكاتفت جنسيات وقوميات أخرى.
في ظل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، استطاع الفرد أن يقفز بمظلته الافتراضية إلى كل الثقافات والعادات والتقاليد ليستفيد من إيجابياتها، فيُجدد ما وجب ويشذب ما ورث. فما بالك بمدينة تحيط بها جغرافياً لا افتراضياً ثقافات لاتينية وأوروبية وأميركية متنوعة كمدينة ديربورن. مدينة تستطيع بالتلاقح الاجتماعي والفكري والاقتصادي معها أن تبني قوة جبارة تصنع بها وطناً في الغربة فتبني بذلك الداخل والخارج.
في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان اليوم، والتي ما زالت الحركة قائمة فيها بأموال اغترابية تحرك الجسد المريض. تتشكل قيمة الاغتراب أكثر فأكثر. لا بتشغيل الأموال أو باستقبال مهاجرين جدد، بل بإظهار الإشكالية الأكبر وهي «العقلية» التي إن بقيت صنماً متنقلاً من مكان إلى آخر، سيبقى بلد قطع الغيار السياسي (حسب تعريف كسنجر للبنان) قطع غيار أينما كنا ولن نبني «مصنعنا الخاص» يوماً ما، كما صنع هنري فورد مجداً مستمراً بنى به ولاية بمحركات ميكانيكية وقدّم دعماً لا محدود لكل ما يتعلق بالعلم والثقافة.
Leave a Reply