وطني.. يا جبل الغيم الأزرق.. وطني.. يا قمر الندي والزنبق.. يا بيوت اللي بيحبونا.. يا تراب اللي سبقونا.. يا زغيّر.. ووسع الدني يا وطني!
اخترقت ذاكرتي هذه الكلمات بصوت فيروز الملائكي وأنا أشاهد فيلم “بعيداً من أرض الذكريات” الذي قام بتسجيله وإنتاجه الشيخ باقر بري. بعد انتهائي من مشاهدة الفيلم تأكد لي، أن الشيخ الشاب باقر بري، هو واحد من النادرين من جيل شبابنا المهاجر الذين يحبون بلدهم بوعي ومسؤولية وقد سعى من خلال الفيلم على المحافظة على هويته العربية والثقافية بأسلوب حضاري ومتقن، نفتقده في جاليتنا العربية، هو أسلوب الإعلام. الإعلام الواعي والذكي من إذاعة وتلفزيون وسينما وحتى الانترنت، الذي يعكس الصورة المشرقة عن عاداتنا وثقافتنا لتأريخها للأجيال القادمة بما فيها تجربتنا في المهجر، وما عاناه المهاجرون الأوائل إلى أميركا حتى استطاعوا النجاح اقتصادياً واجتماعياً ودينياً، تأسيساً لجالية قد تكون من أنجح الجاليات المهاجرة إلى أرض الأحلام أميركا.
“لقد خصصت لكم خالتكم جناحاً خاصاً في منزلها. نحن بانتظاركم.. عيد ميلاد سعيد!” تلخص هذه الرسالة البسيطة على لسان أحد المهاجرين الأوائل “الطُعم” الشهي، يحثه فيها ابن عمه الذي هاجر قبله، ليترك بلدته تبنين ويلحق به إلى أميركا. كانت صدمة شديدة للقادم الجديد عندما وجد أن الجناح المخصص له، ما هو إلا غرفة في طابق علوي صغير (آتك) حشر نفسه مع عائلته فيه واضطر للعمل في مصنع للسيارات في ظروف قاسية ومناخ رديء وهو الذي كان في وطنه يعمل معلماً “قدّ الدنيا”.
قصة ذلك المهاجر من تبنين تختزل معاناة جميع المهاجرين والمغتربين في أوائل الستينات من القرن الماضي. الفيلم يصور لنا مدى المعاناة الحياتية، وإهدار كرامة اللبنانيين منذ الاحتلال العثماني وحتى الاستقلال، ويلقي الضوء على الإقطاع السياسي والاقتصادي في جبل عامل والذي كان الحافز الأول للهجرة من لبنان. ولا ينسى الشيخ باقر أن يلقي الضوء على فضاء الرحابة والذكرى، ذكرى زمن بسيط في بلدة وادعة من قرى جبل عامل بلدة تبنين الذي جاء منها الشيخ الشاب باقر بري، يصورها لنا الفيلم في أوائل الأربعينات من القرن الماضي. صور جميلة قد تكون بمثابة مشاهد وثائقية عن جميع القرى الجنوبية التي هاجرنا منها. هي لفتة جميلة أن يسجل الفيلم لقطات من حياة القرويين البسيطة وبعض العادات التي كانوا يقومون بها بمناسبات الحزن ومناسبات الفرح. كدفء القلب، من كروم وساحات وفلاحة وحراثة ومؤازرة الجيران بعضهم بعضاً من مسيحيين ومسلمين، “والخبز والملح الذي بين جرس الكنيسة ومئذنة الجامع” في تبنين. تشاهد هذه المشاهد في الفيلم وأنت مدجج بالحنين لتلك الصور وعينك تشرب المرئيات بعطش المشتاق الى تراب وطنه وحضن أمه وتتمنى لو يسمع ويرى هذه المشاهد الذي يسيل منه ضوء المحبة والسلام، كل الممتئلة قلوبهم غروراً والثقيلي الأحمال من الكبر والتنكر لكل ما هو جميل، لكل ما حملناه معنا من محبة وألفة وتسامح من أرض الأم لبنان.
الفيلم لا يستخف بالمهاجرين، بل يرسم صورة أمينة لهجرتهم ومعاناتهم اقتصادياً واجتماعياً للتاقلم مع الحياة الأميركية ويلقي ضوءاً على أسلوب العيش والمدارس والعمل ويرسم صورة عن حياة نعيشها هنا في ديربورن وقلما نراها. الفيلم يرصد الواقع بحياد للمهاجرين من بلدة تبنين فقط، ولكنه -برأيي- يلفت الانتباه لصورتنا العربية المهاجرة ككل، وهو (الفيلم) علامة على طريق كم نشتهي شقها إلى قلوب تحيط بنا وتجهلنا. نرى في عيونها كل لحظة، بعض الخوف والخشية من حضورنا أو التحفظ في “ألطف” الحالات.
“بعيداً من أرض الذكريات” جاء كالضوء المشع حاملاً صور ذكريات دافئة في زمن بارد!
Leave a Reply