وثيقة 14 شباط تتحدث عن «لبنانين» وتفجّر الوضع الداخلي
محاولة اميركية لاظهار شخصيات شيعية تشترك بحكومة السنيورة وتغطيها
لم تعد انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية في المدى المنظور، وباتت المواعيد التي يعلنها رئيس مجلس النواب نبيه بري لجلسات الانتخاب مؤجلة، بحكم عدم التوصل الى توافق سياسي بين الموالاة والمعارضة، ليس فقط حول المشاركة في ادارة الدولة ومؤسساتها، بل على مسائل مصيرية تتعلق باسس الكيان اللبناني، مثل الهوية والنظام السياسي والثقافة والخيارات المتصلة بالصراع مع اسرائيل، الى موقع لبنان من المحاور العربية، والنظرة الى العالم والمجتمع الدولي، وهذه الخلافات الوطنية اظهرتها الوثيقة السياسية لقوى 14 شباط، التي اذيعت في مؤتمرها الاول الذي انعقد في مجمّع «البيال» وسط بيروت، حيث كشفت ان هناك ثقافتين في لبنان، ونظرتين داخل مجتمعه، اي وجود لبنانين، و«تعددية حضارية»، وهي المقولات التي كانت تطلق مطلع السبعينات من القرن الماضي، والتي مهدت للحرب الاهلية، وادت الى الفرز الطائفي، وانهيار مؤسسات الدولة وتشرذمها، وفتح الباب للافكار التقسيمية ومشاريع الدويلات الطائفية والمذهبية.
وقد اوحت وثيقة قوى 14 شباط الى هذا الانقسام السياسي والوطني العميق، وهو الموروث منذ نشوء الكيان اللبناني في العام 1920، وقد تنازعته نظرتين، نظرة تدعو الى ارتباطه بالغرب ومثلها بعض المسيحيين «المتفرنسين» وكانت تمثلهم الكتلة الوطنية برئاسة اميل اده ومجموعات اخرى، ونظرة اخرى وحدوية تدعو الى الوحدة السورية (بلاد الشام)، وكان المسلمون اصحاب شعارها مع بعض القيادات المسيحية.
والخلاف القائم في لبنان اليوم، هو حول نظرتين وثقافتين، وهذا صحيح، فالموالون يدعون الى لبنان حليف للغرب والمشروع الاميركي، ولا يتنكرون لذلك، منذ ان اطلق الرئيس جورج بوش تسمية «ثورة الارز» على قوى 14 شباط، التي تفاخر كما يقول النائب وليد جنبلاط بالتحالف مع المشروع الاميركي الذي اخرج سوريا من لبنان بعسكرها وامنها، ولكن بقي نفوذها السياسي عبر «حزب الله» وحلفائه، وهو ما يعمل الفريق الحاكم على معالجته بحسب رأيه، ويدعو قيادة «حزب الله» الى ان تترك تحالفها مع سوريا وايران، وقد رأت وثيقة قوى 14 شباط انهما بلدين معاديين، وتحديداً ايران التي وضعتها الوثيقة على نفس المسافة مع اسرائيل التي تريد الهيمنة على المنطقة ولبنان من ضمنها.
وهذا اللبنان الذي يدور في فلك سوريا وايران، رفضته الوثيقة، ودعت الى ان يكون في فلك الدول العربية المعتدلة التي ترتبط بالسياسة الاميركية، وهذا ما بات واضحاً من ان الفريق الحاكم يريده في الاطار الاميركي، وقد اكدت الادارة الاميركية على لسان مسوؤليها في اكثر من مناسبة، ان لبنان وفي ظل حكومة السنيورة هو من ضمن المشروع القومي الاميركي.
وفي المقابل فان المعارضة ترفض ان يكون لبنان اميركياً او اسرائيلياً، وهي المحاولة التي سار فيها الرئيس كميل شمعون في منتصف عهده في الخمسينات من القرن الماضي بربط لبنان في مشروع الرئيس الاميركي ايزنهاور و«حلف بغداد» لمحاربة تمدد الشيوعية، ولم ينجح وسقط هذا الحلف بالانقلاب في العراق واغتيال رئيس الوزراء نوري السعيد عام 1958، ومنعت المعارضة اللبنانية آنذاك من تحويل لبنان تابعاً لاميركا.
اما المرة الثانية التي سقطت فيها محاولة ان يصبح لبنان اسرائيلياً، فكانت في العام 1982، بعد الاجتياح الاسرائيلي الذي اوصل بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية، والذي حاول ربط لبنان بمعاهدة مع اسرائيل وتطبيع العلاقات معها، ومنع تحويله الى ارض معادية لها، لكن اغتياله، وعدم تمكين شقيقه امين الذي الذي خلفه في رئاسة الجمهورية من توقيع اتفاق 17 ايار واسقاطه من قبل المعارضة الوطنية، قلب المعادلة السياسية التي انتجها الاحتلال الاسرائيلي، واعادت القوى الوطنية المبادرة اليها، وفرضت حكومة وحدة وطنية، ومنعت تحويل لبنان «اسرائيل ثانية».
من هنا فان المعارضة الوطنية اليوم تعمل على منع تحويل لبنان تابعا للمشروع الاميركي، من خلال تعديل موازين القوى الداخلية لصالحها، والتي اختلت لصالح قوى 14 شباط بحصولها على الاغلبية النيابية، من خلال «التحالف الرباعي» في الانتخابات النيابية، وقد تنكر لمضمونه السياسي ركني التحالف الحزب التقدمي الاستراكي و«تيار المستقبل»، مما دفع بالركنين الاخرين الحليفين حركة «امل» و«حزب الله» الى استقالة وزرائهما من الحكومة، بعد ان لمسا تراجعاً عن البيان الوزاري حول دعم المقاومة وحمايتها، خلال العدوان الاسرائيلي في تموز 2006، والذي حصل بقرار اميركي، مما خلق عدم ثقة بين الموالاة والعارضة، وانفجرت الازمة السياسية والوطنية وما زالت ولم تنجح كل المساعي والمبادرات العربية والاوروبية في تأمين حل لها، فكانت تصطدم بان كل طرف لا يريد التسليم للاخر بامتلاك القرار داخل الحكومة، اضافة الى انتظام كلا منهما في محاور خارجية، ساهمت ايضاً في تعطيل الحلول.
ولقد اوقف الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، تحركه باتجاه لبنان، وابدى يأسا منه، وهو لن يعاود تعويم المبادرة العربية قبل القمة العربية، بعد ان اصبح متعذراً انتخاب رئيس للجمهورية، وهو البند الاول في المبادرة، وحضوره القمة في دمشق، وسينتظر موسى ما ستسفر عنه نتائج القمة، وكيف سيعالج الرؤساء والملوك الازمة اللبنانية، وهل تتحقق مصالحات عربية فيها، وتحديداً سعودية-سورية، وهذا متوقف على حجم ومستوى الحضور السعودي، حيث ما زال الرئيس نبيه بري عند رأيه، ان هذه المصالحات كفيلة بالمساعدة في الحل اللبناني، وهو ابلغ موقفه هذا الى رئيس البرلمان العربي محمد جاسم الصقر الذي تحرك بمساع بين الاطراف اللبنانية لتقريب وجهات النظر فيما بينها، بعد ان استشعر خطراً في استمرار الازمة وتفاعلاتها التي قد تصل الى الشارع وتتطور نحو حرب اهلية، يحذر منها اكثر من مرجع لبناني وعربي واقليمي ودولي.
وهذا القلق من تفجر الاوضاع الامنية في لبنان، قد يزداد اذا ما انتهت القمة العربية دون نتائج ايجابية لحل الازمة اللبنانية، وهو ما يلمسه الرئيس بري ويخشى اذا لم يتم التوصل الى حل حتى مطلع الصيف المقبل، ان لا تحصل الانتخابات الرئاسية قبل الانتخابات النيابية ربيع عام 2009، وهذه ايضاً تحوطها تعقيدات واشكاليات، تتعلق بقانون الانتخاب والحكومة التي ستجريها.
وتتوقع بعض المصادر الدبلوماسية، ان تنجح الاتصالات العربية في اجراء مصالحة سعودية-سورية، والتي ستفتح الباب امام الحل في لبنان، ويعمل على هذه المصالحة، قطر التي قد تتقدم بمبادرة خلال القمة، وكذلك عمان ومصر، وهذا ما يشجع عليه رئيس مجلس النواب ويدعمه بقوة، لان البديل هو الفوضى السياسية والدستورية والامنية.
وبانتظار ما ستخرج به قمة دمشق، فان اللبنانيين، بدأوا يعيشون هاجس انفلات الوضع الامني، مع عودة الفريق الحاكم الى الحديث بقوة عن اجراءات سيتخذها خلال الاسابيع القادمة، وتتعلق بأمرين هما: الاول اعادة احياء فكرة انتخاب رئيس الجمهورية بالنصف زائداً واحداً، والثاني توسيع الحكومة الحالية وتعيين وزراء جدد فيها بدلاً من الوزراء المستقيلين وملىء المعقد الوزاري الذي شغر بوفاة الوزير بيار الجميل.
ويتقدم «صقور» الموالاة بهذا الطرح، ويبررونه، بانهم يئسوا من المبادرات والافكار، ولا يمكن الانتظار اكثر، لان من شأن ذلك حصول انعكاس سلبي على «ثورة الارز» وجمهورها ومنجزاتها، ولان الوقت لا يعمل لصالحها الذي تستسغله المعارضة، بانتظار حصول تطورات اقليمية ودولية قد لا تخدم المشروع الاميركي في المنطقة والذي سيؤثر على لبنان، وقلب الموازين فيه، ولا بدّ من استباق ما قد يحصل، والقيام بهجوم مضاد، بالذهاب الى انتخابات رئاسية بالاكثرية المطلقة، او استكمال الحكومة لتمارس دور رئاسة الجمهورية وصلاحياتها كاملة وهذا ما ترغب به الادارة الاميركية وتشجع عليه وتعمل لبقاء السنيورة في رئاسة الحكومة وبقاء رئاسة الجمهورية شاغرة.
هذه الطروحات بدأت تحتل الصدارة في اهتمامات الفريق الحاكم، الذي لا يراهن ان القمة العربية ستنجز شيئاً لمعالجة الازمة اللبنانية، وان الانقسام العربي حولها سيتكرس اكثر، ولا بدّ من الاستفادة من الدعم الدولي والعربي للموالاة لكي تحكم وتمسك بالسلطة.
وفي هذا الاطار تجري اتصالات مع فعاليات شيعية قريبة من قوى 14 شباط او من ضمن خطها السياسي، لاستمزاج رأيها في المشاركة في الحكومة الحالية بدلاً من وزراء «امل» و«حزب الله»، وقد انصبت الاتصالات على شخصيات معروفة باتجاهها السياسي الذي لا يلتقي مع التنظيمين الشيعيين الاساسيين ومن بين الشخصيات التي تم الاتصال بها سواء من قبل اطراف السلطة او الادارة الاميركية، برزت اسماء كل من: الوزير والنائب السابق محمد عبد الحميد بيضون، خليل الخليل (نجل كاظم الخليل)، حسن الحسيني (نجل الرئيس حسين الحسيني)، احمد الاسعد (نجل الرئيس كامل الاسعد) الذي دعي الى الولايات المتحدة واجرى لقاءات واتصالات مع مسوؤلين في الادارة الاميركية، وهو شديد العداء للمقاومة واعلن مواقف منها، مما دفع بوالده كامل الاسعد الى اصدار بيان يتبرأ من موقفه، ابراهيم شمس الدين (نجل الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين)، العلامة علي الامين (مفتي صور وجبل عامل)، نعمت كنعان (مدير عام سابق للشؤون الاجتماعية).
هذه الشخصيات، حصلت معها عدة لقاءات، وكان اخرها في السفارة الاميركية، وفي منزل احمد الاسعد بحضور السفيرة الاميركية الجديدة في لبنان، التي شجعت هذه الشخصيات على الانخراط في حكومة السنيورة، والاقدام على اظهار «تيار شيعي» متمايز عن «أمل» و«حزب الله»، حيث تم التأكيد لهؤلاء انهم سيلقون كل الدعم السياسي والامني والمالي، ولا بدّ من ان تخرج شخصيات واصوات تدعو الى استقلال لبنان عن سوريا وايران، وهذا ما تؤكد عليه دائماً قوى 14 شباط في محاولاتها ابراز اسماء شيعية في مناسباتها او عبر وسائل اعلامها.
ولكن هذه الشخصيات لم تأخذ قرارها بعد، وبعضهم ابلغ مسؤولين اميركيين، انهم اذا كانوا ضد احتكار «امل» و«حزب الله» تمثيل الشيعة سياسياً، او عدم موافقتهم على سياساتهم، فلا يعني ذلك الانخراط في المشروع الاميركي، لا سيما ضد المقاومة.
واذا لم تتوصل قوى 14 شباط مع المساعي الاميركية، لتأمين حضور شيعي داخل الحكومة، فان امر توسيعها يصبح مستحيلاً، ويتم الاكتفاء بترميمها مسيحياُ فقط، بتعيين وزيرين مسيحيين ماروني مكان بيار الجميل، وقد يتم اختيار والده الرئيس امين الجميل، وارثودكسي يسميه المطران الياس عودة، والابتعاد عن التمثيل الشيعي، اذ ثمة فريق داخل الموالاة لا يريد قطع الاتصالات مع بري واستفزازه، وهذا الرأي يمثله جنبلاط وفؤاد النسيورة والنائب سعد الحريري، الذي لم يعلن اي موقف منذ ذكرى اغتيال والده في 14 شباط، حيث اعلن ان لا قمة عربية قبل انتخاب رئيس للجمهورية، لكن تمنياته ذهبت ادراج الرياح، وستحصل القمة في مكانها وزمانها، وما زال تمثيل لبنان فيها مدار تجاذبات داخل الفريق الحاكم نفسه بين رافض لحضورها لان الذهاب اليها خيانة، وبعض يدعو الى عدم التغيب عنها لانها قمة عربية ولا بدّ من ان يحضر لبنان ويقول كلمته ويوصل موقفه، بعد ان تلقى الدعوة من سوريا، والتي اعتبرتها اطراف في السلطة انها كانت مهينة لانها لم تسلم لرئيس الحكومة، في حين اعتبر البعض الاخر انه اعتراف سوري بشرعية الحكومة.
فاذا ما اتجهت قوى 14 شباط الى توسيع الحكومة او ترميمها، فانها ستفتح ازمة داخلية، قد تفجر الوضع السياسي والدستوري وربما الامني، لان مثل هذه الخطوة ستنظر اليها المعارضة على انها استفزازاً، وخروجاً عن الاتفاق الذي رعاه عمرو موسى بمباركة اوروبية، بان ينهي الرئيس اميل لحود ولايته دون ان يشكل حكومة ثانية، على ان تبقى حكومة السنيورة تصرف الاعمال بحدها الادنى، ودون ان تمارس الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية.
وما زال النقاش يدور داخل الموالاة حول هذا الموضوع، لان توسيع الحكومة هو مثل انتخاب رئيس للجمهورية بالاكثرية المطلقة، وفي الحالتين دعوة للحرب الاهلية، وهذا ما تدركه قوى السلطة التي تعرف خطورة مثل هذا الاجراء الخطير، والذي تنظر اليه المعارضة انه انقلاب جديد.
Leave a Reply