انتخب جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية عام ١٧٨٩ ليستمر في هذا المنصب لولايتين متتاليتين (لغاية عام ١٧٩٧) وأمنت رئاسة واشنطن توحيد الولايات الأميركية وإطلاق دستور وشكل نظاما جديدا قائما على الفكر التحرري كالذي انطلق في أوروبا.
عسكري
ولد واشنطن، عام ١٧٣٢، في ولاية فيرجينيا لأسرة تمتهن الزراعة كغالبية الشعب الأميركي في تلك الحقبة. وبعد انتهائه من الدراسة التحق عام 1760 بالجيش الانكليزي الذي كان يستعمر أميركا، وعندما بلغ العشرين من عمره اندلعت حرب بين الإنكليز والفرنسيين، في ذلك الوقت، لم تكن إنكلترا في احسن حالاتها على عكس الفرنسيين الذين انهوا مشاكلهم في كندا وتحالفوا مع الهنود الحمر، و كانت المعركة في غرب أميركا وهزم الإنكليز وقتل قائدهم وبالتالي تولى واشنطن قيادة تلك المنطقة بعدما انصرف الفرنسيون عنه، تاركينه مع جيش ضعيف لا يشكل تهديداً لهم، لينصرفوا إلى الشرق لمواجهة الإنكليز في أماكن أخرى. وقد انهزم الانكليز في معظم المعارك وحوصروا حول نهر المسيسبي. وبعد 3 سنوات قام خلالها ملك إنكلترا بتجهيز جيش قوامه (20 الف جندي نظامي و 18 مدفع حصار) وأنزله في تلك المنطقة محاولا الاتصال بالهنود الحمر، الذين انضم بعض منهم إلى الجيش فيما التزم البعض الآخر الحياد. وقام الإنكليز بمهاجمة الفرنسيين الذين كانوا يملكون جيشا قوامه 8 آلاف جندي فلم يمض كثير من الوقت حتى انتصر الإنكليز وصارت أميركا الشمالية كلها تابعة للتاج البريطاني.
ومع ازدياد غضب الأميركيين على البريطانيين (لأسباب عرضت في الحلقة الماضية)، كان جورج واشنطن القائد الفعلي للاميركيين فقاد الثورة ضد المستعمر، ثم اختير عام 1775 قائدا لهذا الجيش ليخوض به حروبا انتهت بعد ست سنوات. كما شارك فيما يعرف بالحرب الفرنسية-الهندية.
كان واشنطن ناجحا في عمله كقائد أعلى للجيشِ في الحرب الانفصالية من 1775 إلى 1783 ليتبوأ بعد ذلك رئاسة الولايات المتحدة ويكون نائبه جون آدامز.
بعد قيادته النصر الأميركي في حرب الاستقلال، رفض واشنطن قيادة النظام العسكري وعاد إلى الحياة المدنية ليعيش في جبل فيرنون. في 1787 ترأس الهيئة الدستوريةَ التي صاغت الدستور الأميركي الحالي، وفي 1789، تم اختيار واشنطن كأول رئيس للبلاد.
ووضع واشنطن الكثير من السياساتِ والتقاليد التي لا تزال موجودة، ومن أبرز إنجازاته بناء العاصمة واشنطن التي حملت اسمه.
تميز واشنطن باحترامه العميق لقرارات الكونغرس، إذ لم يسع لتجاوز صلاحيات الكونغرس الدستورية. وعمل على تحييد أميركا وعدم إقحامها في الصراع الدائر بين بريطانيا وفرنسا، ورفض الأخذ بآراء العديد من وزرائه في التحيز لإحدى الدولتين. وقبل أن تنتهي السنة الثالثة من خروجه من الرئاسة أصيب بمرض توفي على إثره في 14 كانون الأول (ديسمبر) 1799.
أهم قراراته الرئاسية
– أنهى واشنطن على مضض ولايته الثانية ورفض ترشيح نفسه لفترة ثالثة، ليصنع بذلك العرف الأميركي الذي يقضي بتحديد الولاية الرئاسية بمدة أقصاها ولايتان.
– مرسوم القضاء لعام 1789
– مرسوم مقر الحكومة الأمركية عام 1790 والذي ينص على تخصيص مقاطعة كولومبيا (القريبة من نهر بوتوماك) كمقر دائم للحكومة الأميركية والتي سميت فيما بعد “واشنطن دي سي” لتصبح عاصمة الولايات المتحدة الأميركية.
– في عهده، وبالتحديد عام 1794، اندلع تمرد عرف بتمرد “الويسكي” والذي سببه فرض ضرائب على الويسكي في غرب بنسلفانيا، وفشل التمرد وتم القبض على اثنين منحهما واشنطن عفوا رئاسيا.
الوضع السياسي
كانت حكومة ثورة فرنسا بعد 1789 تعتقد إن حكومة الولايات المتحدة المستقلة ستقف الى جانبها ضد انكلترا بعد إن وقعت الحرب بين الطرفين عام 1793، وذلك اعترافاً لها بالجميل في مساعدة الأميركيين في حربهم الاستقلالية، لكن الفرنسيين صدموا باتفاقية تجارية عقدتها الولايات المتحدة مع بريطانيا عام 1794، حيث رسخت واشنطن سريعا حلفا مع المستعمر البريطاني لا يزال قائما حتى اليوم. وكانت حكومة واشنطن تميل الى الحياد المشوب بالميل نحو بريطانيا، فكان ذلك سبباً لتدهور العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة التي زادت حدة التوتر فيها بعد حصول فرنسا على يد نابليون بونابرت على ولاية لويزيانا (من الاسبانيين) مع أن الولايات المتحدة كانت تتطلع الى استكمال وحدة أراضيها بضم لويزيانا، ولاسيما مدينة نيو أورلينز الهامة إليها.
الدستور الأميركي
واجه الشعب الأميركي ما بين عامي 1783-1789 مشكلة صعبة وهي التوفيق بين اتحاد الولايات الـ١٣ من جهة، والحفاظ على حريات سكانها من جهة أخرى، في تسيير أمورهم بالطريقة التي تعجبهم. وكان الاتحاد ضرورة ملحة للاحتفاظ بالقوة وتجنب المنازعات وللنظر في الأراضي الغربية التي كسبتها من انكلترا.
وقد توصل الأميركيون إلى حل تلك المشكلة عن طريق وضع دستور فدرالي، وتشكيل الكونغرس الذي كان قبل ذلك عبارة عن مجموعة من المندوبين عن المستعمرات. وقد بذل المشرعون الأميركيون جهوداً كبيرة لتوحيد المستعمرات، حيث كلفت لجنة بصياغة إعلان استقلال البلاد وكلفت لجنة أخرى بإعداد شكل نظام الحكم الجديد وكان جون ديكنسون على رأسها. وحالت ظروف الحرب الاستقلالية دون إتمام مشروع نظام الحكم عام 177٦، الذي كان يقضي بتوحيد المستعمرات وتعاهدوا على إنشاء إتحاد بينها أصبح يعرف باسم الولايات المتحدة الأميركية.
وأقرت الولايات الاتحاد الكونفدرالي عام 1781 حيث كانت الحرب لاتزال قائمة وتحول الكونغرس إلى حكومة مركزية رسمية بعد موافقة الولايات الـ13.
وبمقتضى النظام الجديد احتفظت كل ولاية بسيادتها وحريتها واستقلالها، فالولايات كانت قد كسبت حقوقها خلال القتال أثناء الثورة، فأقامت كل ولاية هيئة تشريعية خاصة بها واختارت حاكمها، وأقرت كل منها دستورها الخاص في الفترة بين عامي 1776 و1780، وكانت هذه الدساتير جزئية في أول الأمر كذلك كان الكونغرس يتكون من مقعد واحد لكل ولاية.
كانت المشكلة التي واجهت واضعي الدستور، في المرحلة اللاحقة، هي إصرار الولايات الصغيرة أن يكون لكل ولاية في البرلمان أو الكونغرس صوت بغض النظر عن عدد سكانها بينما تمسكت الولايات الكبيرة بأن يكون التمثيل في الكونغرس بنسبة عدد السكان في الولاية وأدى ذلك إلى ظهور مجلسين للكونغرس:
أولاً: مجلس النواب: ينتخب النواب فيه على أساس عدد السكان.
ثانياً: مجلس الشيوخ: تمثل فيه كل ولاية بعضوين اثنين بغض النظر عن عدد السكان.
ونص الدستور في نفس الوقت على أن أي تشريع لايمكن أن يصبح قانوناً ساري المفعول إلا اذا وافق عليه كل من المجلسين.
أما السلطة التنفيذية فقد وضعت في يد الرئيس المنتخب الذي هو مرشح الحزب الفائز في الانتخابات والمعروف أن الولايات المتحدة اتبعت منذ البداية وباستثناءات قليلة أسلوب الحزبين المتنافسين.
وحسب الدستور، ليس في الولايات المتحدة مجلس وزراء على الصورة المعروفة في أوروبا، إنما يقوم الرئيس المنتخب قبيل تسلمه مهام منصبه بتعين مساعدين له لتنفيذ سياساته.
وتماشياً مع قاعدة “فصل السلطات” كانت السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين الاخريين (التنفيذية والتشريعية).
على هذه الصورة كان نظام الحكم الأول، الذي نص علية دستور 1788 الذي ساهم واشنطن في إعداده ووافقت عليه الولايات الـ١٣. وتأثر الدستور الأميركي بالحريات ومفاهيم حقوق الإنسان في أوروبا، وبما نشره دعاة الفكر التحرري في ذلك العصر من أمثال مونتيسكو صاحب كتاب “روح القوانين”، كما استمد الدستور الأميركي بعض مقوماته من الدستور البريطاني ولكن واضعي الدستور لم يرتقوا إلى الكمال، فحقوق الإنسان كانت مكفولة للأوروبي أو صاحب الثقافة الأوروبية، أما عدا ذلك فقد اعتبر الدستور الآخرين غير جديرين بتلك الحقوق، فتجاهلت الثورة حقوق الزنوج الذين استرقهم البيض، واستعبدوهم وعاملوهم بأبشع ما يعامل به الإنسان.
الكونغرس الأول (1789-1791)
تم اختيار أول كونغرس بعد إقرار الدستور الجديد وبدأت الحكومة الجديدة تعمل بتولي الكونغرس مهمة الإشراف على اختيار الرئيس الأميركي وإعلانه وانتخاب واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الاميركية، في نيسان (ابريل) 1789.
وفي عهد واشنطن أضيفت التعديلات للدستور في شباط (فبراير) 1791، وأقرت المجالس التشريعية لعشر ولايات. وهذه التعديلات هي ما يعرف بالتاريخ الأميركي باسم “قائمة الحقوق”. وكانت الحاجة إليها في الواقع ماسة وكان إغفالها يعتبر نقصاً في الدستور الأميركي. ولقد انشأ الكونغرس ثلاث دوائر تنفيذية لمساعدة رئيس الدولة في عمله، فكان هناك قسم الدولة وشؤونها الخارجية، وقسم المالية، وقسم للحرب وعلى رأس كل منها سكرتير يعينه الرئيس.
وأثبت النظام الجديد، تحت رئاسة واشنطن قوته وجدارته، فسحق “ثورة الويسكي” (١٧٩١) في بنسلفانيا بعد أن جمع قوات الاتحاد من الولايات المجاورة. أما التجربة الثانية كانت إخماد “ثورة الهنود الحمر” سكان البلاد الأصليين الذين هبوا ليدافعوا عن أراضيهم وممتلكاتهم بعد زحف المستوطنين الاميركيين عليها عام 1794. ولكن الحكومة سحقت ثورتهم وأرغمتهم على تسليم أراضيهم، وهي ما تعرف اليوم بولاية أوهايو.
خطاب واشنطن الأخير
ظل واشنطن رئيساً للولايات المتحدة حتى مطلع عام 179٧. وكانت مدة رئاسته بداية طيبة للدولة الوليدة . وتمتعت البلاد خلال فترة رئاسته بالأمن والرفاهية في الداخل، كما أمكن تجنيب البلاد الحرب مع انكلترا. وقبيل انتهاء واشنطن مدة رئاسته وجه إلى الشعب الأميركي خطابا يودعه ويعد هذا الخطاب إحدى وثائق التاريخ الأميركي التي يعتز بها الأميركيون.
وتحدث واشنطن في خطابه عن الحرية التي قدم من أجلها الأميركيون جميعاً التضحيات في حربهم مع انكلترا وحصولهم على الاستقلال، برغم من أنهم ينتمون إلى خلفيات مختلفة لكن الإيمان بقضية الحرية والاستقلال جمعهم.
كما ربط واشنطن في خطابه، بين الحرية من جانب ووحدة الحكومة من جانب آخر. ويبين أن الوحدة هي ضمان الحرية ويقول إن الوحدة هي عضد الدولة والاستقلال والأمن الداخلي والسلام في الخارج وهي عماد الرفاهية والسعادة الفردية والجماعية. وذكّر واشنطن الاميركيين أنهم صاروا بعد الاستقلال قوة أكبر ودولة ذات مصادر أعظم وأكثر أمنا في مواجهة الأخطار الخارجية، فالوحدة تجنب الاميركيين المنافسة والحروب وتقف حاجزاً دون المؤامرات الخارجية التي تهدف إلى إضعافهم ويذكر شعبه بالتقليل من العلاقات السياسية مع الأمم الأجنبية بينما تتوسع في علاقاتها التجارية.
وحض واشنطن الأميركيين على التمسك بالوحدة وقال “سوف نعاني بعض المتاعب في المستقبل عن طريق محاولات إضعاف الحكومة”، وحذر الاميركيين من الانفصال ودعاهم الى “المحافظة على النظام لاستمرار سعادتهم”. وقال ان “التجربة أحسن ضمان لقياس نجاح الدستور.. والحكومة القوية هي التي تراعي مصالح الأفراد وهي خير ضمان للحرية”. وأخيرا نبه واشنطن من “خطر الأحزاب” في الدولة “خصوصا اذا بنيت على اساس الفروق الجغرافية”. وقال ان “الروح الحزبية موجودة في كل نظام حكم، ولكنها غالبا ماتكون خطيرة اذا تغلغلت في نفوس الشعب، فهي تضعف الادارة العامة وتفتح باباً للنفوذ الأجنبي وللفساد وتثير الأحقاد والتنافس بين أوساط المجتمع الواحد.
Leave a Reply