كانت الأعصاب مشدودة الى تداعيات حادثة برج أبي حيدر التي اعترف الطرفان المشاركان فيها “حزب الله” و”جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية” بأنها فردية وتمّ تطويقها بعد محاولة من أطراف في السلطة لاستغلالها لأهداف سياسية تمثلت بجولة رئيس الحكومة سعد الحريري على مناطق الاشتباكات لا سيما ذات الكثافة السنية، وتبنيه اقتراح “بيروت منزوعة السلاح”، الى التحريض على سلاح “حزب الله” وإثارة نزعات مذهبية ومناطقية وفئوية، حيث رأى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله أن هناك من لم يتصرف كرجل دولة، ووضع السكين في الجرح، وهو كان يقصد تصرفات الحريري اللامسؤولة والتي لا تنم عن أداء رئيس حكومة لكل لبنان ورجل دولة، حيث رد عليه الأخير بكلام غير طيب، وكاد يوتر الأجواء، لولا نصائح سريعة وصلت للحريري من السعودية وسوريا وأطراف داخلية أبرزها الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط، أن يعود الى اللغة الهادئة، لأن ما حصل في برج أبي حيدر من تراشق بالسلاح، ليس مقبولاً، وهو مرفوض من الجهتين اللتين وقعتا في فخ هذا الاشتباك غير المبرر والمسيء، فلماذا محاولة صب زيت على النار بدلاً من الماء، ومن هو المستفيد من تأجيج النار وامتدادها؟
عند هذا الحد فهم الحريري أنه أخطأ، وأن من وضعه في هذا الموقف من صقور “تيار المستقبل” وكتلته النيابية وحلفاء له في “14 آذار” ومعتمدي سفارات، إنما أرادوا منه أن يكون رأس مواجهة مع احتمال صدور القرار الظني عن المدعي العام للمحكمة الدولية دانيال بيلمار، وقد يتهم عناصر من “حزب الله”، وهو مقتنع أن عناصر غير منضبطة نفذوا الجريمة، وأبلغ ذلك الى السيد نصرالله، الذي رفض هذا الاتهام واضطر الى فتح معركة المحكمة من زاوية تسييسها، وقدم القرائن حول فرضية تورط إسرائيل في الاغتيال كما أعاد التذكير بموضوع شهود الزور، وضرورة أن يقوم القضاء اللبناني بملاحقتهم، إذا سحبت المحكمة يدها منهم، واعتبرت إفاداتهم غير صادقة.
ومعركة شهود الزور كانت قد بدأت منذ خمس سنوات منذ أن أطلّ الصدّيق على الضباط اللبنانيين الأربعة وهم: جميل السيد، علي الحاج، ريمون عازار، ومصطفى حمدان، وروى أنه كان شريكاً معهم ومع ضباط سوريين في عملية اغتيال الحريري، وكانت إفادته أمام لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس في أيلول 2005، سبباً لتوقيف الضباط الذين لم تتم مقابلتهم بالصدّيق، الذي تبيّن أنه شاهد زور، وقد تم استغلاله من قبل قوى “14 آذار”، وتقديمه الى لجنة التحقيق على أنه ضابط مخابرات سوري، وهو شارك في الإعداد للجريمة في سوريا ولبنان وحضر اجتماعات أمنية. وبعد انكشاف شهادة الصدّيق المزورة، وأن جهات دولية وعربية تقف وراءه، وتمّ إخفاءه، ورفضت فرنسا برئاسة جاك شيراك تسليمه الى القضاء اللبناني الذي ادّعى عليه بتهمة شريك في اغتيال الحريري بسبب إفادته، كما لم تتحرك لجنة التحقيق الدولية لتوقيفه أسوة بالضباط الأربعة، حيث ظهر التسييس في التحقيق، وبدأت عملية ولادة شهود زور آخرين وأغلبهم يحمل الجنسية السورية، لإلقاء التهمة على سوريا، وأن هؤلاء كانوا يعملون مع ضباط أمن سوريين في لبنان ومن أبرزهم هسام هسام، إبراهيم جرجورة، أكرم شكيب مراد، إضافة الى الفلسطيني الحامل للهوية الإسرائيلية ويعمل مع “الموساد” عبد الباسط بني عودة، والى آخرين من شهود يقال أن عددهم وصل الى أكثر من 400 شاهد، هم من سياسيين وإعلاميين وشخصيات منضوية في فريق “14 آذار”، أدلوا بشهادات حول التهديدات التي تلقاها الحريري من الرئيس السوري بشار الأسد إذا لم يقبل التمديد للرئيس إميل لحود، وأنه كان يشعر دائماً أنه مهدد مع فريقه السياسي من النظام الأمني اللبناني- السوري المشترك.
لقد انكشفت قضية شهود الزور بعد أقل من شهر على توقيف الضباط الأربعة، وقام اللواء السيد بتسطير مذكرات الى لجنة التحقيق الدولية والقضاء اللبناني، للتحرك باتجاه هؤلاء الشهود ومقابلتهم معه ومع زملائه الضباط، فكان الجواب من المدعي العام سعيد ميرزا، أن آل الحريري لا يقبلون، وأن ضغوطاً سياسية تمارس عليه وعلى قضاة التحقيق لعدم الإفراج عن الضباط، الذين تحركت قضيتهم سياسياً وشعبياً وإعلامياً، وبأن توقيفهم هو بقرار سياسي، وليس بحكم قضائي، وهذا ما أدى الى تغيير ميليس واستبداله بـ سيرج برامرتز الذي استقال بعد أن مارس دوراً مهنياً ووضع افتراضات لعملية الاغتيال وجاء مكانه بيلمار ليمارس دور ميليس، الذي كان دوره توجيه الاتهام نحو سوريا وحلفائها في لبنان، فإن الأخير أي بيلمار مطلوب منه أميركياً أن يوجه الاتهام نحو “حزب الله” وقد اعترف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بأن قرار المحكمة مسيّس عندما أكّد أنه بيد الولايات المتحدة الأميركية وإدارتها ومؤسساتها الأمنية، عندما أبلغ العاهل السعودي الملك عبد الله، الذي أرسل إليه نجله الأمير عبد العزيز ومدير مخابراته الأمير مقرن، لسؤاله حول صدور قرار ظني مسيّس، قد يفجر الوضع في لبنان، وهو ما سمعه عبدالله أثناء القمة الثلاثية التي انعقدت في بيروت بحضوره والرئيس السوري بشار الأسد والرئيس اللبناني ميشال سليمان، الذين تخوفوا من أن يكون قرار المحكمة الظني، باباً لتدخل منه الفتنة الى لبنان، وتؤجج صراع مذهبي يؤدي الى اقتتال سني–شيعي، وأن التجربة مع لجنة التحقيق الدولية، أثبتت أن التحقيق مسيّس فهو بدأ ضد سوريا، والآن يتجه الى “حزب الله”، وقد يستخدم سياسياً في أي وقت.
هذا التحرك العربي والدولي، رافقته إطلالات إعلامية “تلفزيونية” للسيد نصر الله، وتقديمه القرائن والأدلة حول تورط عملاء لإسرائيل اعتقلوا وأدلوا بإفادات تؤكّد أنهم نقلوا متفجرات وشاركوا في اغتيالات، وأن الدور الإسرائيلي في الاغتيال يجب أن لا يغيّب.
وقد أدى الحضور الإعلامي المكثّف للسيد نصر الله الى تحريك قضية شهود الزور في القضاء اللبناني وتكليف مجلس الوزراء وزير العدل ابراهيم نجار متابعة الموضوع، كما أن بلمار توقف أمام قرائن نصر الله بشأن إسرائيل وعملائها، وقال أنه يريد معلومات إضافية، وهو ألمح وكأن القرار الظني قد يتأخر، واعترف بوجود تسييس في القضية، لكنه أشار الى أنه سيستقيل إذا حصل تدخل سياسي.
وأدى تصدي “حزب الله” وحلفائه، لتسييس المحكمة، والدعوة الى إلغائها، لأنها لا تبحث عن الحقيقة والعدالة، الى حدوث ضجة ليست محلية فقط بل عربية ودولية، بعد أن انكشف أن اغتيال الحريري، كان من ضمن خطة أميركية–إسرائيلية للمنطقة، وقد اعترف النائب جنبلاط، أن تطبيق القرار 1559، كان يلزمه حدثاً كبيراً كمقتل الحريري، لإخراج القوات السورية من لبنان، وهو أقرّ بأن الاتهامات التي وجهت الى سوريا كانت سياسية، ولم يخف وجود شهود زور.
لكن من تأخر في الاعتراف بوجود شهود الزور، هو سعد الحريري الذي ناشده اللواء السيد، أن يعمل على كشف من يقف وراءهم، وإذا لم يفعل فيكون شريكاً في الجريمة ومقتل والده، حيث لم يتوقف نجل الشهيد أمام كلام المدير السابق للأمن العام والذي قضى أربع سنوات ظلماً في السجن، واعتبره “هرطقة”، وتعاطى هو وفريقه السياسي والإعلامي مع “شهود الزور”، وكأنهم حقيقة، ولم يتوقفوا عن استصدار تصريحات باسم الشاهد الزور محمد زهير الصديق، وكان آخرها في الشهرين الماضيين عندما اتهم عناصر من “حزب الله” باغتيال الحريري، من خلال حديث لجريدة “السياسة” الكويتية، التي جرى اعتمادها لتكون منبراً للتزوير الحقيقة.
لم يتجاوب الحريري مع قضية شهود الزور، ولم ينطق بأن الاتهام لسوريا كان سياسياً حتى بعد زيارتها ولقاء رئيسها بشار الأسد، واعتبر أن القضية هي في عهدة الأمم المتحدة التي أنشأت المحكمة الدولية، ولم تكن القيادة السورية تريد منه تبرئتها بل عدم تسييسها، وهي تريد أن لا تكون المحكمة مدخلاً لهز الاستقرار في لبنان بل هي حريصة على الحفاظ على وحدته، وقد ساهمت بعد المصالحة التي حصلت بين الرئيس الأسد والملك عبدالله، على تثبيت السلم الأهلي ومنع وقوع فتنة مذهبية.
وبعد عام على ترؤسه الحكومة، وانتقال حليفه جنبلاط الى موقع التحالف مع سوريا والمقاومة، ومع سقوط المشروع الأميركي في المنطقة، كان لا بدّ للحريري أن يعيد قراءة المرحلة الجديدة، ولو متأخراً، وهو كان أعطى لنفسه وقتاً، وكان يقول للقيادة السورية، أنه سيكون له كلام في الوقت المناسب، كما أنه طلب من جنبلاط أن لا يضغط عليه كثيراً للخروج من 14″ آذار”، فهو لديه جمهوره ويعمل على إخراجه من المرحلة السابقة، فكانت زيارته الى سوريا المرحلة الأولى، وموضوع المحكمة التي يتمسك بها ستكون المرحلة الثانية من خلال كشف شهود الزور، الذين اعترف الحريري في حديثه لـ”الشرق الأوسط”، أنهم أساؤوا للعائلة، كما للعلاقات اللبنانية-السورية، وهو حديث جاء في توقيت كان ملفتاً، إذ لاقى السيد نصر الله حول هذا الموضوع، مما يعني أن القرار الظني الذي سيستهدف “حزب الله”، سيلاقي رفضاً داخلياً لبنانياً، لأنه مبني على التسييس باعتراف من الحريري وتفهم عربي ودولي.
لقد فتح حديث الحريري حول قضية اغتيال والده والتسييس الذي لحق بها، مما أثّر سلباً على العلاقة اللبنانية–السورية وعلى تضليل التحقيق، وهو بالمعنى السياسي، قرّر أن يفتح صفحة جديدة إيجابية في علاقاته الداخلية مع “حزب الله” والخارجية مع سوريا، وهو تأسيس لمرحلة سياسية جديدة، كان بدأها جنبلاط والتحق بها الحريري، الذي سيضطر الى أن يدخل في تحالف جديد، هو غير الذي كان قائماً بعد العام 2005، الذي كان المشروع الأميركي يتقدم في المنطقة، بعد احتلال العراق، وهو يتراجع مع الانسحاب منه، وبالتالي فإن خارطة جديدة بدأت ترسم للمنطقة خارج ما رسمته أميركا.
Leave a Reply