إيمان جاسم – «صدى الوطن»
ديربورن، المدينة الأميركية ذات الكثافة العربية الأكبر في الولايات المتحدة، غدت أحد الأمثلة البارزة على التعدد الثقافي داخل المجتمع الأميركي، متغلبةً على النظرية السائدة التي تصف الولايات المتحدة بـ«بوتقة الانصهار» Melting Pot التي تذيب ثقافات المهاجرين في مجتمع ذي ثقافة طاغية، فتتحول جذورهم الوطنية وقيمهم الحضارية إلى مجرد مظاهر فلوكلورية في وطنهم الجديد.
والأهم في هذا الصدد، أن «عاصمة العرب الأميركيين» لم تكتسب هذا اللقب بسبب الكثافة السكانية للعرب الأميركيين، وحسب، وإنما استحقته عن جدارة بسبب فعالية المجتمع العربي ودوره الريادي والمميز في إثراء اقتصاد المدينة ونسيجها الاجتماعي والثقافي.
وعلى مدار العقدين الماضيين، شهدت ديربورن ميلاً وتصميماً متزايداً لدى أبناء الجالية العربية لدخول المعترك السياسي، والانخراط في مجال الخدمة العامة، والترشح لمختلف المناصب الحكومية والرسمية، ونجح الكثيرون منهم في تبوؤ مسؤولية القرار في مختلف الميادين السياسية والقضائية والتربوية.
وإذا كان العرب الأميركيون ينظرون بعين الفخر والاعتزاز إلى تجربتهم الاغترابية في ديربورن، التي تبدو بأسواقها ومدارسها ومساجدها وأعمالها التجارية كأنها مدينة في قلب الشرق الأوسط، فكيف ينظر مسؤولو المدينة إلى الوجود العربي فيها؟
«صدى الوطن»، حملت هذا التساؤل إلى رئيس البلدية جاك أورايلي الذي وصف ديربورن بـ«المجتمع العظيم»، ممتدحاً المدينة وتنوعها وتاريخها المجيد الذي بدأ مع رائد صناعة السيارات هنري فورد.
ورغم التنوع الظاهر في النسيج السكاني وطغيان العنصر العربي في المدينة، إلا أن أورايلي لا يرى تأثيراً خاصاً بالجالية العربية، إنما «قاسماً مشتركاً» بين مختلف شرائح السكان وهو أنهم «جميعاً يشتركون بالأهداف والتطلعات الكبيرة».
أورايلي، الذي يرأس بلدية ديربورن منذ شباط (فبراير) 2007، وقبل ذلك كان رئيساً لمجلسها البلدي، ولديه معرفة دقيقة بالدور الذي لعبته الجالية في تعزيز مكانة ديربورن الاقتصادية والمالية، وصف المجتمع العربي بأنه يمتلك العديد من «دوافع النجاح»، «تماماً مثل جميع الثقافات الأخرى في ديربورن». وقال لـ«صدى الوطن» إن جميع المواطنين هنا يمتلكون نفس الدوافع، والتي تأتي في مقدمتها الرغبة في إنشاء الأسر ورعاية الأبناء بطريقة تشجعهم على الانفتاح وقبول التنوع.
وأضاف موضحاً: «الأولاد يكبرون، والأجيال الثانية والثالثة والرابعة باتت منخرطة تماماً في المجتمع، والعرب الأميركيون يندمجون مثل الآخرين».
ولدى سؤال عن تأثير الثقافة العربية على المدينة، أجاب أورايلي بأن «لكل مجتمع في ميشيغن، وكذلك حول العالم»، بُعداً ثقافياً خاصاً به «يحدد للناس ما يتبعونه» و«يضبط العلاقات فيما بينهم»، مفضلاً عدم الحديث عن الثقافة العربية بشكل خاص.
تقسيم المجتمع
وعندما طُلب منه أن يصف المجتمع العربي الأميركي في ديربورن بعبارة واحدة، قال إنه مجتمع «مُرحِّب»، مضيفاً: «أحبّ تمثيل هذا المجتمع.. لقد عشت حياتي كلها هنا. نشأت هنا وكذلك والدي، وجدّي جاء إلى هذه المدينة».
ولفت إلى أنه لا يزال يقود ديربورن «لجعلها أقوى وأكثر انفتاحاً، بحيث يشعر الجميع بالترحيب، سواء كانوا مقيمين أو عاملين أو مجرد زائرين»، لافتاً إلى أنه «عندما تنظرون إلى الأولاد في مدارسنا، تجدون أنهم يعكسون مجتمعنا الواسع، وأنماط الحياة المختلفة، والأوساط المتعددة».
غير أن أورايلي أعرب عن مخاوفه من الطريقة التي يتناول فيها الإعلام الأميركي ديربورن وسكانها من العرب والمسلمين الأميركيين عبر السعي إلى توليد شعور بالدونية لدى المهاجرين من بلدان معينة، مشيراً إلى أن بعض الأشخاص يلعبون على هذا الوتر و«يحاولون تقسيم مجتمع المدينة».
وقال: «بصفتي رئيساً للبلدية، فإنني أوكد على أنه لا يجب أن يشعر أي فرد بالتهديد أو القلق، وأن لا أحد لديه الحق في إلحاق الأذى بأي شخص آخر»، رافضاً عقلية «نحن مقابل هم». وأضاف: «الناس هم الناس، ولسوء الحظ فإن بعضهم نشأوا على أشياء معينة، ثم اكتشفوا أن تلك الأشياء ليست كما يريدونها، وباتوا يرغبون بتغييرها فجأة»، وأكد جازماً: «ليس هذا ما تمثله أميركا».
اقتصاد وسياسة
لعب العرب الأميركيون دوراً بارزاً في اقتصاد المدينة منذ الموجات الأولى التي استقطبتها شركة «فورد» لصناعة السيارات، في عشرينيات القرن الماضي، وكذلك من خلال الموجات اللاحقة إبان الحرب الأهلية في لبنان وأزمات العراق واليمن. ويوماً بعد يوم، يثبت العرب الأميركيون دورهم المحوري كمستثمرين ومهنيين وقادة مجتمعيين في بناء اقتصاد ديربورن وعموم ولاية ميشيغن حتى في ظل الأزمات الاقتصادية التي عصفت بأميركا، حيث شكلوا دعامة أساسية للاستقرار في المدن التي يتركزون فيها مثل ديربورن وديربورن هايتس، في حين شهدت مدن أخرى تدهوراً تجارياً وعقارياً ومالياً خانقاً، دفع بعضها إلى شفير الإفلاس.
وفي هذا السياق، يشيد أورايلي الذي قد لا يترشح للاحتفاظ بمنصبه عام ٢٠٢١، بنسيج ديربورن الاقتصادي–الاجتماعي الذي وصفه بالأكثر تنوعاً في منطقة ديترويت الكبرى، لافتاً إلى أن السكان من جميع الشرائح الاقتصادية والاجتماعية في المدينة، يشاركون في تقديم الخدمات للسكان من مختلف الأطياف، «فالجميع هنا يحصلون على نفس الخدمات» بغض النظر عن خلفياتهم.
وعن ازدياد الانخراط العربي الأميركي في المشهد السياسي المحلي، رحب أورايلي بذلك معرباً عن ثقته بأن الترشح للمناصب العامة هو المفتاح الرئيسي لمشاركة جميع الناس في صنع القرار، مشدداً على أن «العرب في هذا الإطار لا يختلفون عن غيرهم من حيث ترشحهم للمناصب». وقال: «إنهم يحاولون إحداث تغيير لجعل المجتمع أفضل، عبر معالجة القضايا الراهنة وتمثيل السكان».
ويشار إلى أن مكتب رئاسة البلدية يضم 17 هيئة استشارية يناط بكل واحدة منها مهمات محددة. إلا أن عدد العرب الأميركيين العاملين فيها أو في سائر دوائر البلدية، غير معروف.
وفي هذا الصدد أكد أورايلي لـ«صدى الوطن» أن «ليست لديه مجموعة ثابتة من المستشارين»، ولكنه يتطلع إلى التعامل مع مستشارين جدد يمثلون مختلف أجزاء المدينة، في إطار مساعي البلدية لجذب الاستثمارات والتنمية الاقتصادية، لاسيما في شرق وجنوب المدينة (وورن وديكس).
المهرجان العربي الأميركي؟
بين عامي 1995–2012، اجتذب المهرجان العربي الأميركي مئات الآلاف من الزوار سنوياً إلى عاصمة العرب الأميركيين، للتسوق والتبضع والاحتفاء بالثقافة العربية. وعلى الرغم من أهميته ونجاحاته، بادرت «غرفة التجارة الأميركية العربية» إلى إلغائه عام ٢٠١٣، بسبب ارتفاع رسوم التأمين، على خلفية دعاوى قضائية وتوترات دينية وعنصرية أججتها زيارات متكررة لبعض الجماعات المعادية للعرب والمسلمين.
وفي هذا الإطار، أشار أورايلي إلى أن البلدية قدمت تسهيلات عديدة لاستمرار المهرجان خلال السنوات الأخيرة قبل إلغائه.
وحمّل رئيس البلدية الجماعات المتعصبة مسؤولية أساسية في زوال المهرجان، قائلاً: «بالنسبة لأي مهرجان أو ما شابه، عادةً ما يتم تحديد مساحة للأشخاص الراغبين في التعبير عن مواقفهم وآرائهم بموجب حرية التعبير»، إلا أن «الدافع الوحيد» الذي أتى بهؤلاء إلى ديربورن «كان التعطيل والتشويش، ومع ذلك تعاملنا مع تلك الحالات بأفضل ما لدينا».
وأشار أورايلي إلى المشاكل والصعوبات التي واجهها القائمون على المهرجان وكذلك مسؤولو المدينة، والتي تمثلت بقرار قضائي نص على أن يكون المهرجان مفتوحاً للجميع، طالما أنه متاح لنشاطات أخرى غير خاصة بالمهرجان، مثل المتاجر وأكشاك الباعة.
وأضاف: «عندما اتخذت المحكمة ذلك القرار، كان من المزمع إقامة المهرجان على شارع وورن أفنيو، وقد قررت المحكمة بأنه لا يمكن منع الآخرين من الوصول إليه».
واستناداً إلى قرار المحكمة، رأى مسؤولو المدينة و«غرفة التجارة الأميركية العربية» عدم الاستمرار في إقامة المهرجان، لأنه كان سيؤدي إلى العديد من المشاكل والدعاوى القضائية.
ولفت أورايلي إلى وجود خيارات بديلة إذ «توجد منتزهات كبيرة تستضيف مثل هذه الأنشطة الترفيهية والاحتفالية، كما هو الحال بالنسبة لمهرجان «ديربورن هومكامينغ» الذي يقام في منتزه «فورد فيلد بارك»، وفي مثل هذه الحالة، فإن الناس الذين يرغبون بالاحتجاج وممارسة حرية التعبير فسوف يتوجب عليهم أن يتقيدوا في منطقة حرية التعبير المحددة لهم».
وأوضح قائلاً: «إذا أقيم المهرجان في منتزه كبير، بدلاً من إقامته في أحد الشوارع الرئيسية، فسوف لن يكون مسموحاً للمتحجين أن يزعجوا الآخرين وأن يتحرشوا بهم، ولن يتاح لهم أن يتحركوا كيفما يشاؤون».
واستدرك بالقول: «هذا لا يعني أنه لا يمكن إقامة المهرجان في شارع وورن أفنيو، ولكن يعني أنه إذا أقيم هناك، فيجب على جميع الأعمال التجارية هناك، الموافقة على إغلاق محلاتها خلال أيام المهرجان.. حينها لن يكون باستطاعة المحتجين أن يتصرفوا كما يشاؤون، ويتوجب عليهم –إن أرادوا الحضور– الالتزام بالمساحة المخصصة لهم».
وعلى الرغم من إدراكه لأهمية المهرجان العربي وفائدته على المجتمع المحلي، إلا أن أورايلي يرى مسؤولية أمنية كبيرة تقع على عاتق المدينة في حال إقامته على شارع مفتوح مثل وورن، فهو لا يريد أن يرى أولئك الدخلاء وهم يلاحقون الأطفال في المهرجان بلافتاتهم الاستفزازية، مذكراً بأن واجب المدينة حماية زوار المهرجان وتوفير بيئة آمنة للجميع.
Leave a Reply