م. روي ويلسون: الحديث عن المساواة دون الالتفات إلى العرق، «عنصرية»
أجرت الحوار: زينب عساف
من طفولة غارقة بالوحدة والعوز، صاغ رئيس «جامعة وين ستايت» م. روي ويلسون حياةً استثنائية من الإنجازات التي يُشاد بها. وتشمل إنجازاته رئاسة أربع جامعات أميركية، وعمادة كليتين للطب، وإدارة أحد المراكز السبعة والعشرين التابعة للمعاهد الوطنية للصحة. قصة حياته الملهمة هذه نشرها تحت عنوان «شجرة الخوخ تزهر حتى في الشتاء»، ليتشارك والقراء، الأفكار المستقاة من تجاربه المُعاشة، والتي قد تساعد الكثيرين في تحقيق أعلى إمكاناتهم.
بعد ظهر يومٍ خريفيّ بارد، رحّب بنا ويلسون في مكتبه للحديث عن كتابه الأخير، فكان الحوار التالي:
■ عنوان هذه المذكرات مستوحى من الطفولة المبكرة عندما حضرت مهرجان أزهار الكرز مع والدتك في اليابان. لقد اخترت رمز شجرة الخوخ لأنها «تزهر في أبرد شهر خلال السنة». هل تمنّيت قط أن تكون شجرة كرز؟ أقصد هل تمنيت يوماً لو أنك ولدت مثلاً لعائلة أميركية بيضاء من الطبقة المتوسطة أو العالية؟
■ سؤال جيد. أحياناً عندما تمرّين بتحديات وصعوبات، يسهُل التفكير في أنك تريدين شيئاً آخر، لكن دعيني أقول لكِ إن تجاربي والعقبات التي اضطررت إلى المرور بها، جعلتني شخصاً أفضل، بمعنى القدرة على التعاطف مع الآخرين الذين يعانون من صعوبات مماثلة وفهمها على مستوى أكثر إنسانية خاصة كشخصية قيادية في مجال التعليم العالي. قد تنشأ مواقف في بعض الأحيان تستدعي التصرّف بطريقة مختلفة، لنفرض أن طالباً من الأقليات يمرّ بظرف ما، شخصياً يمكنني فهمه بسبب تجاربي، والتعامل مع الموقف بشكل مختلف عن شخص لم يمر بمثل تجربته. لذلك أشعر أنني في نهاية المطاف أصبحت أقوى وأكثر تعاطفاً وفهماً للآخرين. سأقول أيضاً إنني أدرك تماماً حقيقة أن هناك أشخاصاً عانوا مما هو أسوأ، فأنا على الأقل كان لي والدان، لكن الكثير من الناس ليس لديهم أحد الوالدين أو كليهما، لذلك لا أريد أن أجعل قصتي تبدو وكأنها أسوأ قصة على الإطلاق، كل ما في الأمر أنه كان هناك بعض الجوانب المثيرة للاهتمام ولهذا السبب كتبت مذكراتي.
■ في الفصل الثالث، تتحدث عن رفضك، كطفل عاش سنواته الأولى في يوكوهاما وبعد ذلك في ساياما، أن تكون «غربياً». ولكن في مرحلة ما من حياتك كان عليك اختيار هويتك كرجل أسود. هل كانت الهوية مسألة اختيار بالنسبة لك؟ ولماذا لم تنحَز إلى انتمائك الأميركي الآسيوي؟
■ هناك تأثيران رئيسيان على ما أعتقد: الأول هو أنني عندما غادرت اليابان، في الصف الأول أو الثاني –لم أعد اذكر تماماً– ذهبت إلى يونغستاون. كانت عائلة والدي سوداء وكان الحي كله أسود، لذلك كنت محاطاً بشكل أساسي بالأفارقة الأميركيين وكذا الأمر عندما كنت في اليابان حيث كانت تفاعلاتي اليومية مع الأميركيين الأفارقة أيضاً. أدركت هويتي من خلال الذهاب إلى الكنيسة مع جدتي هنا في أميركا. أما النقطة الثانية التي حددت انتمائي فهي أنني عندما عدت إلى اليابان وكنت يافعاً بما يكفي للعب كرة السلّة بشكل تنافسي لم أكن أرى الكثير من المراهقين في مثل عمري، بل فقط الجنود الأكبر سناً ما ساعد على ترسيخ هويتي كرجل أسود من خلال التفاعل معهم.
■ إيميه سيزير، الشاعر الفرنكوفوني الشهير يتحدث عن مفهوم الزنوجة على أنها «ليست فلسفة، ولا ميتافيزيقيا، ولا مفهوماً زائفاً للكون، بل طريقة لعيش التاريخ داخل التاريخ». ما هو فهمك الشخصي للتراث الأفريقي الأميركي؟ هل هو نضال اجتماعي–سياسي من أجل المساواة؟ هل تؤمن بالدعوة إلى وحدة الشتات الأسود؟
■ أعتقد أنه من وجهة نظري كأميركي من أصل أفريقي، ومن منظور تاريخي، كل شيء يرجع إلى العبودية. لا أعتقد أن السود في جميع أنحاء العالم لديهم التجارب نفسها. أذكر ذات مرة أنني كنت في أفريقيا وذهبت إلى قرية صغيرة ليست سياحية تماماً بل مكانا لرؤية ما يمارسه الأفارقة في حياتهم اليومية وأذكر أنني شعرت بعدم انتمائي إلى المكان. كان الجميع ينظر إلي وكنتُ غريباً تماماً. أدركت عندها أن الناس في الولايات المتحدة حين يتحدثون عن العودة إلى أفريقيا وأشياء من هذا القبيل، ليس فقط للزيارة ولكن «للتواصل مع جذورهم»؟ نعم، هم في الواقع لا يفهمون حقاً كيف أن تجربتنا هنا في هذا البلد فريدة من نوعها لدرجة أنه ليس لدينا الكثير من القواسم المشتركة مع السود في أفريقيا. إنها تجربة مختلفة كلياً. لذا فإن كل شيء بالنسبة لنا مرتبط بإرث العبودية والتمييز العنصري وقوانين جيم كرو وغيرها. هويتنا كلها مرتبطة بهذا الإرث.
■ نشأت في إطار عائلي غير مستقر وطورت مهارات الصراع من أجل العيش في سن مبكرة جداً. بعد قراءة الكتاب، أعتقد أنه من المدهش كيف يمكن لشخص تحمل هذه المعاناة كلها أن يصل إلى أعلى مرتبة اجتماعية. ذكرت تأثير معلمتك في المدرسة الثانوية «السيدة ستيفن» التي عرّفتك ليس فقط على الكثير من الكتب والأدباء ولكن أيضاً على المجتمع المخملي واهتماماته من المطبخ الفرنسي إلى النبيذ وغيره. هل ألهمك هذا التأثير لتكون رائداً في مجال التعليم العالي؟
■ نعم ولكن ليس بشكل مباشر. أعتقد أن علاقتي مع السيدة ستيفن أو تأثيرها الأكبر عليّ هو أنها جعلتني أشعر بأنني مميز وبأنه علي الالتزام بشيء ما لتحسين المجتمع. لم يكن كافياً بالنسبة لها كسب الكثير من المال أو التمتع بالحياة بقدر الخدمة الاجتماعية. جعلتني أشعر بأن لدي المهارات، أو ربما لم تكن المهارات حينها بل المواهب المدفونة التي تخوّلني التأثير في المجتمع. في الواقع لم أفكّر في دخول مجال التعليم العالي حين التحقت بالجامعة ولكن مع مرور الوقت، انجذبت إلى مجالين يمكنني فيهما القيام بشيء ما للمساعدة في تحسين المجتمع وحياة الناس: أحدهما هو الطب والآخر هو التعليم. لذلك اخترت بشكل غير مباشر مجالين لهما قيمة اجتماعية أكبر من مجرد الذهاب إلى العمل والحصول على راتب أو العيش في منزل كبير والسفر من أجل المتعة. لقد كنتُ محظوظاً في مسيرتي المهنية لأنني جمعت الطب والتعليم العالي، هل ثمة أفضل من ذلك؟
■ هذه المذكرات مؤثرة لأنك قررت التحدث عن الجوانب الإيجابية والسلبية في حياتك. لكن الحديث عن حياتنا الشخصية يتطلب شجاعة حقيقية، شجاعة لفضح الضعف. «الذكريات تدفئك من الداخل ولكنها أيضاً تمزقك» وفقا للكاتب هاروكي موراكامي. لماذا قررت عدم ارتداء قناع؟ أعني أنه كان يمكنك «تلميع» الكثير من الأحداث كما يفعل بعض المشاهير؟
■ تعرفين أن أحد أسباب كتابة الكتاب كان تنفيسياً. اعتقدتُ أن هناك قصة يجب أن تروى وبمجرد أن بدأت في كتابتها، راحت تتبلور أكثر. أنت تتحدثين عن ارتداء قناع: لعلني كنت أضع قناعاً حقأ طوال مسيرتي المهنية. ربما بسبب الطريقة التي قدمت بها نفسي، مستواي التعليمي، ومعرفتي بأشياء مثل النبيذ وما إلى ذلك، افترض الناس تصوّرات عني. عندما اكتشفوا أن والدي كان في الجيش مثلاً اعتقدوا أنه ربما كان ضابطاً لكنني لم أقل ذلك قطّ، لم أكذب يوماً قائلاً إن والدي كان جنرالاً أو أي شيء من هذا القبيل، لكنني أيضاً لم أصحح افتراضات الناس، لذلك كنت دائماً أرتدي قناعاً بمعنى ما. «جامعة وين ستايت» قدّمت لي شيئاً فريداً ذكرته في إعلاني الأخير عن عدم تجديد عقدي، حيث قلت فيه على وجه التحديد إن القائد يكون أكثر فعالية عندما يتمكن من العثور على صوته. أشعر أن «وين ستايت» أعطتني صوتي ولهذا أنا ممتن للغاية. أما ما قصدته بذلك فهو أنه في الكثير من المؤسسات التي أدرتها من قبل، لم أستطع أن أكون صادقاً تماماً لأن قيَمي الشخصية وقيم تلك المؤسسات لم تكن متطابقة. وهذا صحيح حتى الآن. فهناك العديد من المؤسسات، خاصة في الجنوب، حيث لا يستطيع المرء المناداة بتعزيز التنوع وأشياء من هذا القبيل دون أن يقع في ورطة. أما هنا فأتحدث بصدق عما أؤمن به موقناً بأنني أتحدث أيضاً باسم الجامعة وهذا أعطاني الشجاعة لأكون صادقاً وحقيقياً، لأنني شعرت بأن ما يجعل هذه الجامعة ما هي عليه، هو قبولها لجميع الناس من الأقليات والسكان المهاجرين. لذلك شعرت بالراحة في أن أكون صادقاً وشفافاً، رغم أنني في البداية لم أكن أفكر بنشر مذكراتي قبل انتهاء فترة رئاستي وتقاعدي. فأنا لم أكن أريد الكشف عن الكثير من الأشياء واعتقدت أن الناس قد يسيئون الظن بي. ولكنني بدأت بالكتابة لأنه كان لدي متسع من الوقت، فقط بسبب الوباء. وعندما فعلت ذلك أدركت أن الوقت قد حان لأكون صريحاً لأن الكتاب سيكون ذا تأثير أكبر وأنا في فترة الرئاسة.
■ ستُعرف باسم الرئيس الذي حسن الجامعة بشكل كبير من خلال بناء كليات جديدة ومدرّج جديد وتجديد مركز الطلاب، واعتماد خطة رئيسية للمرافق لمدة عشر سنوات، وافتتاح «كلية مايك إيليتش» لإدارة الأعمال وغيرها من المشاريع الكبرى، بالإضافة إلى تحقيق معدل التخرج الأكثر تحسناً في البلاد –وهو أعلى بـ21 نقطة مئوية– بين 2012 و2018، كيف ترى مستقبل الجامعة في السنوات القليلة المقبلة؟
■ كنت ملتزماً ومتحمساً لما أقوم به. المباني الجديدة مشروع ممتاز ولكن ما أفتخر به حقاً هو التحسن الكبير في معدل تخرّج الطلاب لأنه استثمار مهم لتمكين طلابنا ومنحهم الفرص المستقبلية. من المؤكد أن تجاربي العالمية جعلتني رئيساً أكثر فعالية وخاصةً بسبب خلفيتي وما عشته. من جهة أخرى إصابتي بالسرطان والتفكير بأنه لم يكن لديّ سوى وقت محدود، جعلني أكثر فعالية فبدأت أعامل الجميع بطريقة مختلفة عن ذي قبل.
■ أعلم أنك قلت في كتابك إن مراسلاً سألك عن مشاعرك حول كونك أول أميركي من أصل أفريقي يترأس «جامعة تكساس تيك». لسبب ما، فإن مقارنتك بالرئيس باراك أوباما أمر لا مفر منه. ربما هو الحلم بمجتمع ما بعد العنصرية كما تصفه. هل تعتقد أن أميركا ستحقق هذا الحلم يوماً ما؟
■ نعم، أنا متفائل لكنني أعتقد أن هناك تحديات كبيرة، فمن جوانب عديدة، ازدادت العنصرية سوءاً في هذا البلد. لأن الحديث العنصري بات أكثر علنية مما كان عليه قبل خمسة عشر عاماً. لعل بعضاً من ذلك الخطاب كان رد فعل على وجود رئيس أميركي أسود. لا أعرف، ولكن ما أعرفه هو أن هناك عنصرية أكثر انفتاحاً. السبب الثاني لهذه العنصرية له علاقة بالرئيس دونالد ترامب. في الواقع هذا الإجهار يقلقني قليلاً. لكن من جهة أخرى، يعترف المزيد من الناس والمزيد من المؤسسات بإرث العبودية والعنصرية من خلال سياسات أكثر نشاطاً لمكافحة هذه العنصرية. وفي هذا الصدد لا يكفي فقط أن نقول إنه يجب معاملة الجميع على قدم المساواة، أعتقد أنه يجب أن تكون مناهضاً للعنصرية بطريقة واعية وفعّالة. قبل بضع سنوات لم يكن مصطلح «مناهضة العنصرية» معروفاً جيداً، لكنه الآن شائع جداً وهناك منظمات وكتب للحديث عن ذلك، وهناك أيضاً عدد من الأكاديميات المختلفة التي تركّز على هذا الاتجاه. هناك جهد واعٍ من قبل العديد من المنظمات لأول مرة. وأعتقد أنه إذا أردنا الوصول إلى مجتمع ما بعد العنصرية فلن نصل إليه بمجرد القول إننا نعامل الجميع بالطريقة نفسها دون الالتفات إلى مسألة العرق. في الواقع هنا تكمن المشكلة تحديداً. يجب رؤية الفوارق العرقية وما ترتبه من عواقب اجتماعية. يجب معاملة الناس بتمييز إيجابي بسبب العرق ومواجهة قضايا العنصرية. أنا متفائل ولكن علينا أن نعمل بقصدية للوصول إلى ذلك الهدف.
■ يوجد في «جامعة وين ستايت» عدد كبير من الطلاب من الأقليات؛ ذكرت في كتابك أنها «الجامعة الأكثر تنوعاً في ميشيغن ومن بين أكثر الجامعات البحثية تنوعاً في البلاد»، ماذا تقول للطلاب الملونين وخاصة العرب الأميركيين حيث سيتم نشر هذه المقابلة باللغة العربية للناطقين بها أيضاً؟
■ أود أن أقول إن قوة هذه الجامعة وهذا البلد عموماً هي في تنوع شعبه. وجود الأقليات يجعل هذا البلد أعظم بلد في العالم. أميركا قائمة على فكرة قبول المهاجرين وتعزيز التنوع بغض النظر عن بعض مشاكل الهجرة. نحن لسنا دولة منعزلة كاليابان على سبيل المثال. لذلك مهما كانت الأقلية التي تنتمي إليها، فأنت مهم لنسيج هذه الأمة ويجب عليك المثابرة مهما كانت التحديات.
■ سؤالي الأخير هو أنه إذا كانت لديك القدرة على العودة إلى طفولتك، ماذا تريد أن تقول للصبي روي ويلسون؟
■ هذا سؤال جيد وكما تعرفين أنني في كتابي أتحدث عن الكلمات الأخيرة التي قالتها لي أمي: روي، يجب أن تغفر، يجب أن تغفر! يومها فكرت ملياً بما كانت تعنيه وأعتقد أن ما أرادت قوله هو أنه كان لدي الكثير من الغضب في داخلي. الناس يخطئون ولا أحد مثالي. لو تمكنت من نُصح روي ويلسون الصغير، لنصحته بالتخلي عن الغضب. سأقول له: اغفر وانسَ!
Leave a Reply