كمال ذبيان
يتأثر لبنان بأي حدث إقليمي ودولي، وتعتبر ساحته مكاناً لصراع أمم ومحاور، ودار قتال على أرضه بين اللبنانيين أنفسهم سماها الصحافـي الراحل غسان تويني «حروب الآخرين»، وحصل تباين داخلي بين القوى السياسية اللبنانية وصل الى حد الخلاف الحاد حول موقع لبنان فـي الأزمات العربية والإقليمية والدولية، وتركّز النقاش حول دوره فـي الصراع العربي – الإسرائيلي، فطرحت مواقف سياسية متناقضة، بين داعٍ لتحييد لبنان وكانت القوى الحزبية والسياسية المسيحية هي صاحبة هذا الشعار، فـي حين أن قوى إسلامية وقومية ويسارية كانت تدعو الى انخراط لبنان فـي المعركة القومية ضد العدو الصهيوني، ودعم المقاومة الفلسطينية وانحياز لبنان الى الدول الداعمة للقضية الفلسطينية.
تمام سلام متحدثاً في قمة شرم الشيخ (رويترز) |
ولم تغب الحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفـياتي «السابق» عن لبنان الذي انقسم فريق مع المعسكر الرأسمالي والليبرالي الذي جسّدته قوى حزبية يمينية وتحالفت مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وسار الرئيس كميل شمعون فـي عهده بمشروع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور فـي الخمسينات الذي قام على محاربة الشيوعية، فـيما ناهضه فريق لبناني عروبي ويساري إستند الى دعم عربي تمثّل فـي الناصرية الصاعدة مع الرئيس جمال عبدالناصر فـي مصر مطلع الخمسينات، وكانت ذروة المواجهة مع العدوان الثلاثي على قناة السويس المصرية، الذي كرّس عبدالناصر زعيماً للقومية العربية، وبطلاً فـي التصدي للمشاريع الاستعمارية الغربية، ففتحت له عواصم عربية لتقيم وحدة مع مصر.
أدّى الانقسام السياسي اللبناني حول مشروعين أميركي وعربي الى حصول نزاع مسلح فـي العام 1958، كانت له أسبابه الداخلية منها محاولة الرئيس كميل شمعون التجديد لولاية ثانية كما فعل قبله الرئيس بشارة الخوري، لكنه لم يتمكّن من إكمال ولايته الثانية التي أسقطتها ثورة شعبية كان شمعون على رأسها بتحالفه مع النائب كمال جنبلاط فـي العام 1952، فجاء ليكرّر خطأ أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال، لينتهي عهده بثورة دموية.
ولم تكد تنتهي الأحداث الدموية فـي العام 1958 بتسوية دولية – إقليمية نسجها للبنان الرئيس عبدالناصر والموفد الأميركي ريتشارد مورفـي (الأول)، حتى وقع لبنان بعد أقل من عشر سنوات فـي أزمة جديدة هي الوجود الفلسطيني المسلّح الذي تعاطف معه قسم من اللبنانيين بعد رفع الفلسطينيين البندقية لتحرير فلسطين بعد نكسة وهزيمة الجيوش العربية فـي حرب 5 حزيران 1967التي نأى لبنان بنفسه عنها، لكنه دفع ثمن انطلاق المقاومة الفلسطينية من أرضه بعد تشريعها عبر اتفاقية القاهرة بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات ورعاية الرئيس عبدالناصر، حيث تمّ تنظيم هذا الوجود فـي العرقوب جنوب لبنان وما سمّي «فتح لاند» وداخل المخيمات الفلسطينية عبر الكفاح المسلح بعد خروج السلطة اللبنانية منها.
وولّد الانقسام اللبناني حول المقاومة الفلسطينية حرباً أهلية دامت 15 سنة، دمّرت الحجر وقتلت وهجّرت البشر، وتداخلت فـيها عوامل داخلية كاصلاح النظام والمشاركة فـي السلطة وخارجية وصراعات إقليمية ودولية، وغزت «إسرائيل» لبنان مرتين فـي العام 1978 و1982، وخرجت منظمة التحرير من لبنان، ونشبت حرب أهلية جديدة بين اللبنانيين كان العامل الخارجي مؤثراً فـيها، فاندحر المشروع الإسرائيلي، وعاد المشروع السوري الى لبنان الذي يقوم على وقف التعامل مع العدو الإسرائيلي من قبل فريق من اللبنانيين بإسقاط اتفاق 17 أيار، ودعم المقاومة لطرد الاحتلال الإسرائيلي والقوات الأطلسية، وهكذا امتدت الحرب مدة 15 سنة، ولم تتوقف إلا باتفاق دولي – إقليمي لعبت سوريا دوراً فـي وقف إطلاق النار وحل الميليشيات وتسليم سلاحها وفق ما جاء فـي اتفاق الطائف.
فأزمات لبنان وما نتج عنها من معارك وثورات وحروب، كانت أسبابها داخلية تتعلق بتركيبة النظام السياسي والمشاركة الطائفـية فـي السلطة، وغذتها مصالح وصراعات أممية، كان اللبنانيون وقودها وضحاياها، وعادت لتطل من جديد عبر ما يجري فـي الإقليم منذ الحرب الأميركية على العراق وإسقاط نظام صدام حسين فـي 2003 وإعدامه بعد محاكمة فـي 2004، حيث بدأ لبنان يشعر بارتدادات الحرب فـي العراق عليه، وكان اغتيال الرئيس رفـيق الحريري أبرز تجلياتها من ضمن صراع مشاريع «الشرق الأوسط الكبير» الأميركي، و«الشرق الأوسط الجديد» الإسرائيلي، «والشرق الإسلامي الإيراني» والذي وصفه البعض بـ«الهلال الشيعي»، وانبعاث «عثمانية جديدة» يقودها حزب «العدالة والتنمية» (الإخوان المسلمون)، لإعادة «الخلافة الإسلامية السّنّية» بقيادة تركيا وعلى رأسها الثنائي رجب طيب أردوغان وأحمد داوو أوغلو.
فـي خضم صراع المشاريع، كان لبنان فـي قلب العاصفة التي دهمته فـي القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي طالب بانسحاب القوات السورية وحل «حزب الله» العسكري (الميليشيات كما نص القرار) ونزع سلاحه، وهذا كان شرارة فتنة داخلية بدأت مع اغتيال الحريري وقيادات وشخصيات أخرى كان أغلبها من قوى 14 آذار، ليحصل العدوان الإسرائيلي صيف 2006 على لبنان والمقاومة فـيه لدفعها نحو الاستسلام وتسليم سلاحها، لكن صمودها وتصديها للعدوان وتكبيده هزيمة، عدّل من مشروع «الشرق الأوسط الكبير» ولم يلغه، الذي قوامه «فوضى خلاقة».
وهكذا تمددت الفوضى من لبنان الى دول أخرى تحت مسمى «ربيع عربي» لإسقاط أنظمة، وتدمير الدول العربية لمجتمعاتها وانهيار مؤسساتها وأولها الجيش، وهو ما حصل فـي تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وكان لبنان يتأثر بما يحصل لاسيما فـي سوريا التي اندلعت فـيها الأزمة قبل أربع سنوات وهي مستمرة، فاندلعت معارك عسكرية محدودة فـي أكثر من منطقة، كان أبرزها فـي طرابلس وجرود عرسال وصيدا، وحصلت عمليات تفجير تركّزت على مناطق تواجد «حزب الله» الذي تمكّن من محاصرتها، إذ ان الهدف من عمليات التفجير الانتحارية وغيرها هو إغراق «حزب الله» الذي يساند النظام فـي سوريا بحرب أهلية لبنانية، أو بفتنة سنية – شيعية، توفّرت لها كل الظروف السياسية والأمنية والأسباب الاقتصادية والإجتماعية، وبروز ظاهرة التطرّف والإرهاب الذي نال اللبنانيين منه سيارات مفخخة.
إنقسم اللبنانيون حول الأزمة السورية وتقاتلوا فـي بعض المراحل وتحديداً فـي معارك باب التبانة وجبل محسن، أو فـي مناطق حدودية متاخمة لسوريا لاسيما فـي البقاع الشمالي وبعلبك وعرسال، قبل أن يبسط الجيش اللبناني سيطرته على مواقع استراتيجية فـي جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، ويتموضع «حزب الله» مع الجيش السوري فـي مناطق القلمون ثمّ الزبداني، إنهم ومنذ تشكيل الحكومة برئاسة تمام سلام ومشاركة كل القوى السياسية فـيها، تراجع تأثير الأزمة السورية مع ربط النزاع الذي أعلنه الرئيس سعد الحريري وقبوله مشاركة «حزب الله» فـي الحكومة التي حققت خططاً أمنية، فأقفلت بؤراً أمنية فـي طرابلس والبقاع وصيدا.
لقد نجحت القوى السياسية المنقسمة على الأزمة السورية فـي التخفـيف من منع تمدد الحريق السوري الى لبنان، إذ يعلن فريق تأييده للنظام السوري بقيادة بشار الأسد، فـي حين يقابله فريق سياسي يدعو الى إسقاطه كما أن أطرافاً لبنانية أعلنت مشاركتها فـي القتال فـي سوريا الى جانب النظام «كحزب الله» أو قوى اسلامية متشددة الى جانب المعارضة.
تراجع انعكاس الحرب السورية على لبنان، بعد تنظيم الخلاف حولها، وإعلان كل طرف مواقفه من الأزمة السورية، التي تأثر بها لبنان أمنياً لجهة تزايد عمليات الإجرام واعتقال شبكات إرهابية من نازحين سوريين، أو اقتصادياً بتحمل أعباء لا قدرة للبنان عليها تفوق 7 مليارات دولار سنوياً وارتفاع البطالة اللبنانية، فإن الوضع المستجد فـي اليمن والتدخل العسكري السعودي مع حلفاء للمملكة فـي الأحداث اليمنية ضد «الجماعة الحوثية» وحليفها المرحلي الرئيس السابق علي عبدالله صالح، فإن اللبنانيين انقسموا حول ما يجري، إذ أيّد فريق السعودية وعبّر عنه الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط وسمير جعجع وكل أطراف 14 آذار، فـي حين هاجم «حزب الله» السعودية فـي خطاب لأمينه العام السيد حسن نصرالله بعد أقل من 48 ساعة على تدخلها العسكري ووجّه انتقادات قاسية وبعبارات شديدة اللهجة للنظام السعودي وأمرائه، وحذّرهم من أن مغبة عملهم ونتائج حربهم ستكون خزياً وعاراً عليهم كما حصل مع كل الغزاة والمعتدين على الشعوب كما قال السيد نصرالله الذي استوجب رداً فورياً من الرئيس الحريري، ثم من السفـير السعودي فـي لبنان علي عواض العسيري وتبعهما النائب وليد جنبلاط بموقف لافت خارج موقعه الوسطي، إذ هاجم إيران الفارسية ودعا الى حصر السلاح بيد الدولة فـي رسالة الى «حزب الله» أسقط فـيها تنظيم الخلاف معه، ليعود المشهد الى مرحلة الصراع الدامي الذي وقع بين 8 و14 آذار من العام 2005، إذ ثمة خوف من أن يكون لأحداث اليمن آثارها السلبية على لبنان عبر تأجيج الصراع بين مؤيد للسعودية فـي تدخلها باليمن ومندد به، بالرغم من تمسك «تيار المستقبل» و«حزب الله» بالحوار بينهما، واستمرار ربط النزاع حول الخلاف على سوريا، فهل يصمد الحوار ويُربط النزاع حول اليمن أيضاً، لتجنيب لبنان صراع محاور ودول ومصالح ونفوذ، حيث برز انتقاد الوزير حسين الحاج حسن ممثل «حزب الله» فـي الحكومة لرئيسها تمام سلام حول خطابه فـي القمة العربية بشرم الشيخ والمؤيّد للسياسة السعودية التي هاجمها السيد نصرالله، إذ اعتبر كلام سلام لا يعبّر عن رأي لبنان الرسمي، أو الحكومة، وهي المرة الأولى التي يخرج فـيها الحزب بموقف سلبي من الحكومة فـي وقت كان دائماً يدعو للحفاظ عليها وما زال وعدم فرطها فـي ظل الفراغ الرئاسي، فهل بدأت الساحة اللبنانية تتأثّر بالإنقسام العربي، وكيف ستكون تداعيات الصراع السعودي – الإيراني على لبنان الذي تعتبره طهران من ضمن مناطق نفوذها مع العراق وسوريا واليمن، فهل يكون ساحة اشتباك سعودي – إيراني، بعد أن اتفق الطرفان على استقراره والتشارك فـي حكومة واحدة، وكان الرئيس نبيه برّي قد أصرّ على حوار سعودي – إيراني يساعد فـي حل أزمة انتخاب رئيس للجمهورية والحفاظ على الاستقرار فـي لبنان.
Leave a Reply