رحلة شاب عربي أميركي من التعاطي إلى التعافي
حسين الكاظم – «صدى الوطن»
نشأ ربيع درويش نشأة عادية مثل معظم الأطفال في شرق ديربورن التي هاجر إليها مع عائلته من لبنان عام 1989 وهو مايزال في سنّ السادسة. ومثل بقية أقرانه في الحيّ، درس المرحلة الابتدائية في مدرسة «مكدونالد» وتابع المرحلة الإعدادية في مدرسة «لاوري».
كان ربيع أصغر إخوته السبعة، وقد تربّى وفق القيم الإسلامية والتقاليد الشرقية في قلب الجالية، لذلك حين رأى الماريوانا لأول مرة في حياته وهو في سن الثانية عشرة، لم يخطر بباله بأن هذه النبتة المخدرة ستقلب حياته رأساً على عقب، وسوف تجرّه إلى نفق مظلم من الكذب والفشل والإدمان على المخدرات الثقيلة، وأنه لن يتمكن من الخروج منه إلا بعد خسارة أجمل سني شبابه.
لم يدخّن ربيع الماريوانا في المرة الأولى، لكنه تذوّقها بعد ثلاث سنوات من ضغط الأصحاب، بدون علم عائلته، وشعر بنشوتها وخدرها اللذيذ. دخل عالمها البهيج، ودخل معها في عالم الكذب. ومنذ ذلك الوقت أصبح الكذب مهنته الوحيدة، بحسب ما أفاد لـ«صدى الوطن»، لكي يتمكن من مواصلة التعاطي والحصول على المواد المخدرة دون أية مساءلات أو عوائق.
كطالب في المرحلة الثانوية، كان ربيع يحبّ الرياضة ويمارس كرة القدم في الفريق المدرسي، لكنه سرعان ما توقف عن اللعب في الصف الحادي عشر بسبب نبذ زملائه وتفاديهم صحبته، بعدما علموا بتعاطيه للمواد المخدرة.
الطريق إلى الهاوية
أُصيب ربيع في إحدى ركبتيه خلال لعب كرة السلة، وهو في عمر التاسعة عشر، ما اضطره إلى اللجوء إلى مسكنات الآلام من المشتقات الأفيونية، حيث واظب على استهلاك جرعات متواصلة من عقار «فايكودن» لتحمل الوجع. وعندما لم يعد العقار متاحاً بسبب عدم وجود الوصفات الطبية، أخذ ربيع يعاني من أعراض الانسحاب، ليبدأ نوعاً آخر من الإدمان.
ظنّ في بادئ الأمر أنه يعاني من الإنفلونزا، فلجأ إلى عقاقير أخرى. تناول «سوبوكسون» لعلاج أعراض الانسحاب وما ينجم عنه من تعب وإنهاك، لكن الأعراض استمرت لأكثر من شهرين، وهي فترة طويلة جداً بالمقارنة مع أعراض الانسحاب الناجمة عن الإقلاع عن الهيرويين، على سبيل المثال، والتي عادة ما تستغرق نحو 12 يوماً فقط.
الأعراض الشبيهة بأعراض الأنفلونزا، كالضجر والتبرم والأرق والقلق والحصر النفسي، دفعت ربيع وهو في عمر الـ20 إلى البحث عن أنواع المخدرات الثقيلة في الشوارع. لم يعد يتعاطى المهدئات والمواد المخدرة من أجل النشوة والاسترخاء، وإنما لتسكين الألم وتفريغ الضغوط. كان يريد لجسده أن يعود إلى حالته الطبيعية، ولكن هيهات!
«النشوة التي شعرتُ بها عند تدخين أول سيجارة ماريوانا لم تعد موجودة»، يقول ربيع، «لقد أصبحت المتعة قليلة أو شبه معدومة، ومنذ ذلك الحين بدأت المرحلة التي نسميها في مجتمع المتعافين من الإدمان، بمرحلة مطاردة التنّين».
ترك ربيع الدراسة، وتنقل بين عدة أعمال، لم يثبت في واحدة منها. كان الإدمان يشلّ تفكيره وينغّص حياته، وكانت عائلته قد علمت بأمره منذ وقت طويل. إذ تدهورت حالته إلى حد لم يعد بالإمكان إخفاء إدمانه على أحد.
لدى ربيع 22 من أبناء الإخوة والأخوات، وأصبح مضرب المثل في الفشل والتدمير الذاتي. كان النعجة السوداء في القطيع. وكان اللطخة المخجلة في حياة الأسرة. وإلى جانب إدمانه على المخدرات، كان ربيع مدمناً أيضاً على الكذب والتهرب من مواجهة المعضلة التي حولت حياته وحياة عائلته إلى جحيم لا يطاق.
لقد حاول –بشكل يائس– أن يصلح أوضاعه، لكنه لم يكن قادراً على النجاة من الوحش الذي ينهش جسده وروحه. الوحش الذي افترس زهرة عمره، التنّين الذي أحرق أجمل سنين حياته، سنوات العشرينات!
لكن، كانت هنالك أوقات متقطعة للراحة. لاستجماع القوى. لإعادة الحسابات. في إحدى المرات سافر ربيع إلى لبنان في إجازة قصيرة، وكانت فرصة للابتعاد عن إغراءات التنّين. أصلح أسنانه هناك، وتخفف من بعض الضغوط، وعندما عاد بدا كما لو أنه على ما يرام.
يتذكر درويش في حديثه مع «صدى الوطن» تلك الرحلة، ويقول: «لقد أجريت عملية جراحية هناك لمعالجة آثار التدخين التي أنهكت لثتي ودمرت أسناني. كان الأمر ناجماً عن سوء النظافة عندي كمدمن، وعندما عدت إلى ديربورن، رأتني أختي وقالت: ها أنت الآن تبدو بوضع أفضل»! غير أن «الوضع الأفضل» لم يدم طويلاً لسوء الحظ، فقد ظهر التنّين مجدداً وعادت حليمة إلى عادتها القديمة. لقد عاد ربيع إلى مطاردة التنّين من جديد!
بعودته إلى تعاطي المخدرات الثقيلة، عاد ربيع إلى الكذب والتحجج والتهرب من مواجهة مشكلته التي تتفاقم باستمرار، حتى أنه نجا أربع مرات من الجرعات الزائدة وهو في أوائل الثلاثينات. في كل مرة، كان يتصل بمراكز العلاج من الإدمان، ولكن ما إن يتحسن قليلاً حتى يعود إلى بيئة المدمنين.. وإلى مطاردة التنين. وفي عائلته، أصبح ربيع مصدراً دائماً للقلق والخيبة والإزعاج.
أدرك ربيع خطورة وضعه، حين عاد في إحدى المرات من مركز للاستشفاء، ليجد حروق السجائر منتشرة على أصابعه، وسراويله، وسريره. قال: «عندما عدت إلى البيت، جلست في غرفتي، ورأيت حروق السجائر في كل مكان، على جلدي، وسراويلي، وسريري».
حياة جديدة
في عمر الـ33، كان ربيع يواجه مخاطر السجن لمدة تسع سنوات، مع رخصة قيادة معلّقة، واحتمال الإصابة بفشل كلوي وتلف في الكبد. حينها رفع الراية البيضاء، راية الاستسلام! قرر أخيراً الذهاب إلى أحد مراكز العلاج من الإدمان في المنطقة.
الحظ كان يعانده كالعادة، ففي ليلته الأولى بالمركز انقطعت الكهرباء. كان الجو خانقاً ودرجة الحرارة في حدود 98 فهرنهايت، وكانت الأسرّة مليئة بالبقّ والحشرات. قال ربيع: كنّا 14 شخصاً في غرفة صغيرة في الطابق العلوي، وكان الوضع مأساوياً ومريعاً. لم يحتمل الإقامة في تلك الظروف لينتهي به المطاف إلى الشارع بعد شجار مع أحد النزلاء.
وجد ربيع نفسه بلا مأوى،. لكن لجوءه إلى مركز العلاج كان –في كل الأحوال– خطوة مفيدة، لأن الاعتراف بالمشكلة هو بداية حلّها والتخلص منها. أما نقطة التحول الإيجابية في حياته، فكانت لقاؤه بالمدير التنفيذي لنادي «هايب» الرياضي بديربورن هايتس، علي السيد، الذي ساعده في الحصول على وظيفة عامل تنظيفات في الصالة الرياضية.
كان والد ربيع مصاباً بألزهايمر في ذلك الوقت، وكان يعاني من صعوبة الحركة وسلس البول، وقد أعطى تنظيف المراحيض لربيع القوة والتواضع لخدمة أبيه وهو على سرير الاحتضار. ورأى ربيع إن نيله لتلك الوظيفة كان ينطوي على حكمة ما. لقد جعلته يفكر بأمه التي كانت تقوم بكل أعمال التنظيف الخاصة بأولادها يومياً.
وقال ربيع: لأجل ذلك.. سأصبح أعظم منظف مراحيض في العالم إذا تطلب الأمر مني ذلك.
كان الأمر يتعلق بحصوله على فرصة لبدء حياة جديدة واستعادة صحته وكرامته وعلاقاته التي فقدها بسبب تعاطي المخدرات. ولكن التنّين كان دائماً هناك ينفث نيرانه اللافحة التي لا فكاك منها. في إحدى ورديات العمل، أطل التنين من جديد حين وجد ربيع 150 دولاراً في الصالة الرياضية، واستيقظ الكذب في داخله!
لكن، هذه المرة كانت مختلفة. لقد تفوق ربيع على نفسه. اتصل برئيسه في العمل وسلّمه الـ150 دولاراً، معتبراً أن ذلك المبلغ هو أول «تبرع» في حياته.
يومها، خطا ربيع خطوته الأولى في عالم «النظافة» الحقيقية. لم يعد مجرد عامل تنظيفات يزيل الأوساخ من المراحيض والحمامات وأرضيات النادي الرياضي. لقد دخل الموظف عالم الطهارة الشخصية متحملاً آلاماً مبرحة لكي يحافظ على نفسه «نظيفاً» من التعاطي والكذب والتهرب من المسؤولية.
كانت عملية لا تنتهي من الإصرار والمثابرة والأمل بأن الشفاء من الإدمان ليس مستحيلاً. ونجح ربيع –في نهاية المطاف– بتحويل قصته الشخصية إلى مثال يحتذى في مجتمع المتعافين من تعاطي المواد المخدرة.
طاقة إيجابية
بمناسبة اليوم العالمي للتوعية من الجرعات الزائدة الذي صادف في 31 آب (أغسطس) المنصرم، أجرت «صدى الوطن» مقابلة مع ربيع في نفس المكتب الذي قصده في المرة الأولى للحصول على وظيفة عامل التنظيفات قبل ست سنوات، ولكنه كان –هذه المرة– يجلس في الجانب الآخر من المكتب، بعدما أصبح أحد المسؤولين الإداريين في تحالف «سايف» لمكافحة الإدمان، وهو منظمة فرعية لدى مركز «هايب». وخلال اللقاء، كان ربيع يتحدث بكل شجاعة وثقة وبلاغة عن تجربته الأليمة، وكانت طاقته الإيجابية تشع في المكان، لدرجة أنك لن تصدق بأن هذا الشخص لمس المخدرات في حياته.
على المكتب، كان ملفّ ربيع مليئاً بالوثائق والمستندات المتعلقة باستمارات مراكز العلاج وأوراق المحاكم، وكانت بينها صفحة تتضمن نحو عشرة أسماء من المتعاطين الذين يعرفهم شخصياً، قضى البعض نحبهم بسبب الإدمان، فيما لا يزال البعض الآخر على قيد الحياة.
لقد حثّ ربيع المدمنين على عدم التردد في اتخاذ الخطوة الأولى، التي هي أهم مرحلة من مرحلة العلاج، قائلاً: إذا كنت مدمناً، قم بالاتصال بـ«هيئة الصحة العقلية في ديترويت»، تماماً كما فعلت أنا، وسوف يساعدونك على التخلص من سموم المواد المخدرة.
أضاف: إذا كان لديك تأمين صحي، اتصل بالرقم الموجود على البطاقة. يمكنك أيضاً أن تتصل بي إذا أردت، بإمكاننا أن نشرب القهوة ونتحدث حول الأمر. لا تشعر بالذنب أو العار، أنت لست وحيداً ولست منبوذاً، وهناك أشخاص يحبونك حقاً».
في إحدى الفعاليات العاشورائية الشهر الماضي، وقف ربيع على منبر «المركز الإسلامي في أميركا» بمدينة ديربورن، وقال: «أنا اليوم لائق بدنياً وعقلياً، وشغفي هو الخدمة ومساعدة الآخرين. لديّ رخصة قيادة، وسجل جنائي نظيف، لم أرتكب أية مخالفة منذ ست سنوات. الحمد لله. أشغل حالياً منصب مدير العمليات في تحالف «سايف» لمكافحة الإدمان. أنا مدرّب حياة، ومدرّب تعافٍ، وقد ساعدت في علاج نحو 200 شخص من هذه الآفة القاتلة».
وأفاد لـ«صدى الوطن»، بأن الإدمان ليس وباءً انتقائياً، فهو لا يصيب شخصاً دون آخر، بل هو وحش يهدد الجميع، لافتاً إلى أن مركز «هايب» يعلم النشء على الاعتناء بأتفسهم، والاعتناء ببعضهم البعض، لكي يصبحوا أكثر تماسكاً من الناحية النفسية والوجدانية، وأكبر قدرة على مواجهة التحديات التي تحدق بهم.
وقال ربيع، إنه بخلاف الكثيرين الذين يتكتمون على تجاربهم المخجلة، يفضل التحدث عن تجربته وسرد قصته بكل آلامها وعذاباتها، في محاولة لتجنيب الآخرين الآلام التي تجرّعتها لنحو عشرين عاماً من الإدمان.
Leave a Reply