ديربورن – «صدى الوطن»
لـ«ليالي عاشوراء» عند المسلمين الجعفريين مكانة دينية مميزة يؤدون خلالها شعائر خاصة تذكرهم باستشهاد الإمام الحسين (ع). وتمتد هذه الليالي من 1 الى 10 محرم وفق التقويم الهجري، حيث يصادف اليوم العاشر، المعروف بيوم عاشوراء، الذكرى السنوية لمقتل الإمام الثالث عند المسلمين الشيعة.
حسينية «موكب الجمهور الحسيني» في ديربورن ترفع أعلاماً ملونة خلال أيام عاشوراء. |
وتتعدد شعائر الليالي الحزينة التي تتم فيها استعادة قصة مقتل الإمام الحسين، قراءة وتمثيلاً، كما تضاء الشموع، ويوزع الماء، ويقدم الطعام، إضافة إلى عادات وتقاليد أخرى تتنوع بين مجتمع شيعي وآخر (مثل الندب واللطم والتطبير)، فيما يجري في اليوم العاشر تنظيم مسيرة تعرف بـ«الموكب الحسيني» أو «المسيرة العاشورائية» التي يتم خلالها رفع أعلام ورايات سوداء تعبيرا عن الحزن والحداد على مقتل حفيد النبي محمد (ص).
ويمثل هذا التقليد السنوي حجر الأساس في وجدان المتشيعين الذي يحرصون على نقله وممارسته حيثما حلوا، ما لم تواجههم ظروف قاهرة، كما أصبح مظهرا أساسيا في المشهد الديني في مدينة ديربورن التي تحتضن أعدادا كبيرة من أبناء الطائفة الشيعية الذين يحييون ليالي عاشوراء سنوياً، عبر فعاليات متعددة، برزت منها «المسيرة العاشورائية» في الآونة الأخيرة، بعد استغلالها من قبل بعض المتعصبين والمتربصين للاصطياد في الماء العكر.
ففي العام الماضي، تم تصوير مقطع فيديو لمسيرة عاشوراء في ديربورن حيث كانت ترفع أعلاماً سوداء، ومن ثم نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعليق يقول: «هذه هي ديربورن بعد الهجوم الإسلامي الراديكالي في كاليفورنيا.. هذه أعلام «داعش» وهؤلاء هم داعموه ولكن وسائل الإعلام لا تقوم بالتغطية».
وقد قامت صحيفة «صدى الوطن» حينها بدعوة منظمي المسيرات المماثلة إلى إعادة النظر في بعض العادات والتقاليد المترافقة مع إحياء هذه المناسبة الدينية والاجتماعية، لاسيما المجالس والمواكب العاشورائية التي يحرص المشاركون فيها على رفع الرايات السوداء، الأمر الذي قد يثير التباسا لدى الأميركيين الذين لا يعرفون اللغة العربية ولا يعرفون عن الإسلام سوى ما يقدمه لهم الإعلام من صورة مشوهة، فيخلطون بين «رايات الحسين» و«رايات داعش» بسبب اشتراكها باللون الأسود.
وتأتي إعادة إثارتنا للموضوع ليست من باب المبالغة والتهويل، وإنما لتجنب الخطر مهما كان احتمال وقوعه ضئيلاً، لاسيما وأن الكثير من أئمة المساجد والمراكز الدينية قد دعوا إلى تجنب رفع الأعلام السوداء في المسيرات العاشورائية والمظاهر الأخرى التي تتسبب بسوء الفهم لدى الأميركيين، واعتماد وسائل أخرى -بدلاً عنها- للتعريف برسالة الإمام الحسين (ع) ومبادئها وأهدافها الإنسانية.
وفي هذا السياق، أكد الوكيل الشرعي للمرجعية الدينية العليا، ونائب الأمين العام لمؤسسة «إمام» السيد محمد باقر الكشميري على ضرورة إبراز مضامين الرسالة الحسينية من خلال الجوهر كون أن المظاهر والطقوس قد تتباين وتختلف من زمان الى آخر ومن مكان الى آخر، ولذا سوف لن يكون غريباً أن يرى الأميركيون هذه المظاهر مثيرة للريبة والالتباس إذا لم يراعَ هذا الجانب منها. وقال: «إننا لا نتعامل مع هذه المناسبة من الزاوية الطائفية، فهي مناسبة لا تخص الشيعة ولا عامة المسلمين بل هي لجميع الناس لما تنطوي عليه من مضامين إنسانية راقية».
وأثنى الكشميري على المنظمين للمسيرات العاشورائية الذين يعملون غالباً «انطلاقا من نوايا طيبة تستحق الشكر»، ولكنه انتقد المبادرات العفوية غير المدروسة وكذلك المبادرات الفردية التي تفتقر إلى التنسيق مع قادة المراكز والمؤسسات الدينية المتواجدة في مدينة ديربورن، للنقاش والتوصل إلى أفضل مظهر لتلك المسيرات، وقال: «يندر أن يخرج قرار غير صائب إن تم فيه التشاور مع جميع المتصدين من أجل الصالح العام». وأكد «صحيح أن النوايا طيبة ولكن هذه الفعاليات تحتاج إلى تنسيق ولا يجوز إقامتها عبر تصرفات ارتجالية قد تضر أكثر مما تخدم حسبما لوحظ من تجارب ماضية».
ولدى سؤالنا السيد الكشميري في ما إذا كانت مؤسسة «إمام» قد بادرت إلى التواصل مع المنظمين واقترحت حلولاً لبعض المظاهر التي يمكن أن تتسبب بسوء الفهم، قال: «بحمد الله كانت مؤسسة إمام والقائمون عليها دائماً مبادرين بمد يد التعاون والمسارعة إلى الخير، لكن للأسف لم نلق آذاناً صاغية ورأينا التشبث بظاهرة الإنفراد والعناد غير المبرر والتمسك بأجندات محددة».
وأكد أن اللون الأسود يعبر لدى كثيرين، وبينهم الشرقيون، عن الحزن والحداد، ولكن رفع الرايات السوداء ليس شعيرة دينية، ويمكن استبدالها برايات من أي لون آخر إذا كانت تبعث صورة سيئة أو تحسب على فئات إرهابية ضالة.
بدوره، أكد السيد حسن القزويني أنه دعا مراراً وتكراراً على منبر صلاة الجمعة إلى ضرورة ضبط المسيرات العاشورائية وتشكيل لجان للإشراف عليها لتفويت الفرصة على أي شخص يريد التشويش والإساءة أو استغلالها لأغراض التحريض على العرب والمسلمين.
وشجع على نشر الوعي وإيصال رسالة الحسين (ع) عبر طرق أخرى، كاستخدام ملصقات على السيارات (بامبمر ستيكر) تحمل أقوالا مأثورة من أقوال الإمام الحسين، ومترجمة إلى اللغة الإنكليزية، مما يساعد «الأميركيين من غير المسلمين أن يفهموا أن هذه المسيرات ليست مناسبات فلوكلورية وليست تظاهرات تدعو إلى مواقف سياسية متطرفة، وإنما هي -خلافا لكل ذلك- إحياءٌ لذكرى إمام بذل حياته من أجل الحق والعدالة، وأنه ليس شهيد فئة أو طائفة محددة، بل هو شهيد الإنسانية جمعاء».
وأضاف: «إن ليالي عاشوراء ليست مجرد اجتماعات للندب واللطم وإنما هي مدرسة ثقافية عظيمة تعيد إحياء القيم الحسينية»، مشيراً إلى أهمية المحاضرات التي تلقى بالمناسبة باللغة الإنكليزية لتبيان الجوانب الإنسانية والثقافية والفكرية في قصة استشهاد الحسين.
وأشار إلى أنه سيلقي بالمناسبة دروساً يومية في مدرسة «فوردسون» بديربورن باللغة الإنكليزية ابتداء من 2 الى 12 تشرين الأول (أكتوبر) القادم، داعيا أبناء الجاليات العربية إلى دعوة أصدقائهم ومعارفهم وجيرانهم الأميركيين لحضور تلك المحاضرات، لكي يتعرفوا على هذا التقليد الذي يقيمه الشيعة سنويا ويفهموا أسبابه وبواعثه.
ولم تتمكن «صدى الوطن» من الاتصال بإمام «مركز كربلاء الإسلامي» هشام الحسيني، الذي أفادتنا بعض المصادر بأنه يشرف على تنظيم مسيرة عاشورائية بدون التنسيق والتشاور مع المراكز الدينية الأخرى.
وكان الحسيني قد أكد في حديث سابق، في منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي، أنه أوصى المشاركين في الموكب العاشورائي -الذي نظم للاحتفال بـ«أربعينية الحسين» الماضية- بعدم رفع الأعلام واليافطات السوداء لتجنب أي سوء فهم من قبل الآخرين، إلا أن أعلاما سودا رفعت بالفعل فتم استغلال ذلك وتم تداوله مئات آلاف المرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على «الفيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب».
ولدى القيام بجولة على بعض المراكز الدينية في مدينتي ديربورن وديترويت، لاحظنا أن بعضها بالفعل قد تجنب رفع الأعلام والرايات السوداء، فقد قامت حسينية «موكب الجمهور الحسيني» برفع أعلام من عدة ألوان، وكان ملاحظا أن الأعلام السوداء قد تم توشيحها بلون آخر، لتجنب أي تشابه بينها وبين أعلام ورايات تنظيم «داعش» التي يألفها الأميركيون.
وقال صاحب الموكب طاهر الكوفي: «لقد قمنا هذا العام بنصب أعلام ورايات بألوان مختلفة على المبنى كما قمنا بوضع يافطات تحمل صوراً لأهل البيت لكي تكون الرسالة واضحة ولا تحمل أي التباس».
وأشار الكوفي الذي كان أول من نظم مواكب حسينية في مدينة ديربورن إلى أنه لا يوجد أي تشاور أو تنسيق بين المراكز الدينية بخصوص المسيرات.. التي قد تنتج عنها في بعض الأحيان أخطاء وتصرفات سلبية، خاصة لناحية الازدحام والإعاقات المرورية، داعيا مدينة ديربورن إلى تخصيص طريق كامل لتلك المسيرات، بدل الاكتفاء باستعمال الأرصفة الضيقة التي تعجز عن استيعاب مئات وآلاف المشاركين الراغبين بإحياء المناسبة.
Leave a Reply