هذه قصة أهديها إلى إنسان، لن أحدد إن كان ذكرا أو أنثى، لكنه يختال بكبرياء كالطاووس، واسع الذيل، ضيق الفكر، أعرفه ويعرفه الجميع من أيام الفقر والبهدلة، لكن عندما هبت رياح التشبيح واللعب بالبيضة والحجر، امتطى الموجة فانتفخ كرشه وضمر عقله حتى ظن أنه الديك المغرور الذي لا تفلت منه صوصة “دجاجة” ونسي من حوله بعدما أصبح في العالي وأنا خائفة أن يتدحرج إلى منبته الأول فيرجع مذموما مدحورا.
عندما كان الشاه الإيراني -الامبراطور رضا بهلوي- في عز توهجه كان حلفاؤه وأسياده من رؤوساء الدول الكبرى يتسابقون على استضافته، ويرسلون إليه المندوبين والمبعوثين ليزينوا له محاسن السكن أو الإجازة في بلادهم. بعدما سقطت ورقته، رفضوا منحه “فيزا” لدخول بلادهم حتى للعلاج رغم أن أمواله المنقولة وغير المتحركة كانت ماتزال في خزائن بنوكهم وهو لم يقصر يوما معهم، فما من مرة زار سويسرا، بريطانيا، فرنسا أو أميركا ويده فارغة. كان يحرص دائما على حمل ما خف وزنه وغلا ثمنه من السجاد الإيراني الفاخر. كان الشاه يعطي ويهدي بأطرافه الأربعة، صحيح إنه لم يتعب في صنع السجاد وحياكته، لكنه كان يمنح بكرم حاتمي، بالمقابل كانت هداياهم إليه ضئيلة، هزيلة لا تساوي شيئا.
في إحدى المرات أهدته الملكة اليزابيث ملكة بريطانيا قطعة جوخ انكليزي، فطار فرحا بها. عاد إلى طهران وطلب من خياطه الخاص أن يفصل له بدلة منها. أخذ الخياط الإيراني قطعة القماش وقاسها وهو ينظر إلى الشاه بخشوع واحترام، وقال له: حضرة مولانا الشاه المعظم.. إن قطعة القماش صغيرة جدا ولا تكفي لصنع جاكيت لحضرتكم!
غضب الشاه وطرد الخياط وقال عنه إنه لا يفهم، وأمر بإحضار خياط آخر إلى القصر. وقال الخياط الثاني مثلما قال الأول للشاه: إن قطعة القماش صغيرة جدا. في ذلك اليوم لم يترك الشاه خياطا في الامبراطورية الإيرانية إلا وأحضره إلى القصر، وتأسفوا كلهم وأبدوا له الملاحظة نفسها. تأثر الشاه وأمر بحفظ قطعة القماش في صندوق من الأبنوس الخالص اعتزازا بالهدية وبمن أهداها. وعندما جاء المندوب السامي الأميركي ليقول له: “انتهى الدرس يا غبي” حرص الشاه المخلوع على حمل الصندوق وفيه قطعة القماش العزيزة على قلبه.
لم يذهب الشاه إلى سويسرا التي حجزت على أمواله وعقاراته وجمدتها ولا إلى فرنسا التي رفضت استقباله بالرغم من فيلاته وشققه وأمواله فيها. كذلك فعلت بريطانيا وأميركا. من طبع العرب إيواء الطريد وابن السبيل.. وكانت مصر المأوى فحط رحاله فيها.
بالرغم من كل الآلام التي كان يعانيها، لم ينس قطعة القماش فطلب من أحد معاونيه أن يحضر له خياطا مصريا عرض عليه قطعة القماش طالبا منه أن يصنع له منها طقماً. وافق الخياط وأخذ يقيس الشاه طولا وعرضا وأكتافا ووسطا، ولما انتهى قال للشاهنشاه السابق: بعد غد سيكون الطقم جاهزا إن شاء الله.
بعد يومين، جاء الخياط إلى القصر وأخذ يعرض الطقم أمام الشاه الذي ذهل حين رأى الخياط قد خاط له بنطلونا وجاكيتة وصديريا من قطعة القماش الأثيرة. وبسرعة دخل إلى غرفته ولبس الطقم الجديد وخرج ليسأل الخياط كيف استطاع أن يصنع طقما كاملا فيما قال الخياطون في إيران، إنها لا تكفي جاكيت، فأجابه الخياط المصري: يا سيدي.. في إيران يراك الناس امبرطورا، أما هنا فأنت رجل عادي!
Leave a Reply