«من جعبة الذكريات» حلقات أسبوعية بقلم الصحافي الحاج علي عبود
في الأربعينيات من القرن المنصرم، وفي الأيام الأولى من فصل الربيع، وفي مدينة بيروت الساحرة بهدوئها وجمالها وإستقرارها، والإطمئنان الذي يلف الناس كلهم بذراعيه، ورغد العيش فيها، في ذلك اليوم، الذي عبقت في أجوائه روائح كل الزهور مجتمعة تعرفت إلى سائحة نصفها عربياً، والنصف الآخر أفريقيا، جاءت إلى لبنان لتنعم في ربوعه الجميلة المضيافة بإقامة قصيرة، ولتعبئ رئتيها بأمواج من نسائم لبنان النقية المُصفاة، ومن ثم لتعود بعدها إلى وطنها لتشيد وتمتدح جمال لبنان وسحره وحضارة شعبه، وكيف أن هذا الشعب حقق لنفسه أمجاداً لا تحصى، وكيف أنه استطاع أن يواكب الأمواج الفكرية والحضارية التي فعلت في حياته فعلاً أثيراً، وحتمت عليه أن يعبّ من تلك الأنسام الحضارية كماً هائلاً مُنجزاً مكانة إنسانية عالية ميزته عن بقية الأمم والشعوب.هذه السائحة العربية الملامح، ذات العيون الواسعة الشبيهة بعيون المها – الغزلان الصغيرة – أمضيت برفقتها أكثر من اسبوعين وكادت أن تجعل مني أمام رفيقاتها الحسناوات صديقاً حميماً لها، حينما كنا نزور الجبل يوماً، والساحل الجميل في يوم آخر، والروشة في يوم ثالث وما في الروشة وما حولها من مناظر خلابة ومواقع سياحية طبيعية لم تصنعها أيدي البشر ولم تغيرها الحروب والويلات والنكبات إلا قليلا، وإنما صنعتها يد الخالق الجبار.وذات صباح فاجأتني قائلة: أنا مسافرة غدا إلى عدن، وحين استوضحتها عن عدن هذه قالت: إنها بقعة جميلة من بقاع الأرض العربية، وقالت: أدعوك لزيارتنا في عدن، لترى بأم العين أي جمال طبيعي أخاذ لدينا، وأي واقع منظم يعيشه شعب عدن، وأية حسناوات يضفن حلاوة إلى كل ما لدينا من جمال جذاب.وفي مطار بيروت، ودعتها لا كما يودع الحبيب حبيبه بل كان وداعاً بعيدا كل البعد عما يفعله المراهقون. وقبل أن يبتلعها صالون المسافرين قالت لي: سأعود إلى لبنان الجميل الأخضر لأمتع النظر بمناظره الخلابة ومناخاته الجميلة وأنسامه العليلة التي ترد الروح للجسد. شكرتها على ما قالته من مديح للبنان ولما ينعمُ فيه شعب لبنان من نعمٍ لا تُعد ولا تحصى. كنت يومئذ في العقد الثاني من العمر.أقلعت الطائرة وابتعدت وبقيت كلماتها تتردد في أسماعي، لذا رأيتني أضع نصب عيني زيارة عدن. كان هذا يا أخا العرب في أوائل عام 1942 أيام الوجود الفرنسي في لبنان، وقبل أن ينال لبناننا الحبيب إستقلاله عن فرنسا.كنت يومها في العقد الثاني من العمر حيث الشباب الذي لا يعترف بالصعوبات، وحيث الطموحات والأحلام أكبر بكثير من قدراتها المتواضعة، وكانت طموحات لا حدود لها أبدا، ناهيك عن العضلات المفتولة وغيرها. سألت أحد الأصدقاء عن عدن! وعن الطريقة التي يمكن لي أن أصل إليها وكيف؟ قال لي هذا الصديق أن عدن تخضع للحماية البريطانية وبريطانيا هي التي تتولى كل الأمور المتعلقة بالتأشيرات وغيرها..سجال وصدام مع القنصلوقال: إن في بيروت قنصلا فخرياً لعدن وهو من آل بيهم فقصدت القنصل في مكتبه، وكان رجلا مسناً يحمل على كتفيه هموماً ومتاعب حقبة زمنية لا تقل عن السبعة عقود من الزمان فقط. ولما أخبرته بأنني أود الحصول على تأشيرة لزيارة محمية عدن قال: يا بني، عليك أن ترسل برقية إلى ولي عهد اليمن المتوكلية الأمير أحمد بن يحي حميد الدين. فهو القادر على أن يمنحك هذه التأشيرة التي تريدها. قلت متسائلاً: الأمير أحمد بن يحي؟ بشخصه؟ قال: نعم. قلت: وما علاقة ولي عهد اليمن الأمير أحمد بن يحي بمحمية عدن يا ترى؟ فهل باتت عدن قرية من قرى المملكة اليمنية المتوكلية يا حضرة القنصل؟
قال: متأسف، وسألني قائلاً: هل تتعاطى أي عمل تجاري معين؟ وما هو نوع التجارة التي تتعاطاها هنا؟ قلت: أتعاطى تجارة المخدرات وعمليات التهريب الدولية الكبرى، وأنا عضو مهم في إتحاد مافيات العالم، ومن إختصاصاتي إحداث إنقلابات في دول العالم، ومحاسبة جميع الذين لا يحسون بآلام الناس وأوجاعهم. هنا رأيت الجو كاد أن يتكهرب فخشيت أن يتصل القنصل المحترم برجال البوليس والدرك فانسحبت مسرعاً دون أن يشعر بخروجي أحد. ودارت الأيام دورتها السريعة، وأنا لا زلت أحتفظ في أعماق ذاكرتي بقسم من هذا الكلام الذي قلته في مكتب القنصل، الذي كاد أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كما احتفظت بكلمات حلوة العينين ولم أنس دعوتها لي لزيارتها في محمية عدن.
لا بد من صنعاء وإن طال السفرصعوبة الحصول على تأشيرةلقد كان من الصعب جدا يومئذ، على أي مواطن عربي لبنانياً كان أم غير لبناني أن يحصل على تأشيرة من سفارة بريطانية تعمل في أي بلد عربي. لذا رأيتني أخطط، وأنا لا زلت في بيروت، عن وسيلة تؤمن لي الوصول إلى عدن. وهي عاصمة الجنوب اليمني المحتل من قبل الجيش البريطاني. كان هذا قبل ستة عقود ونصف من الزمان.وإنجاحاً لمهمتي الصحفية، توجهت إلى سفارة دولة الباكستان في بيروت وحصلت على تأشيرة زيارة، كما أنني توجهت في نفس الوقت إلى سفارة المتوكلية اليمنية وحصلت منها أيضا على تأشيرة أخرى، تأشيرتان، بدلا من واحدة. إذن، حملت تأشيرتان واحدة إلى اليمن المتوكلية والثانية إلى الباكستان.وخلال أسبوع، كنت قد غادرت بيروت متوجهاً إلى القاهرة، ومنها إلى صنعاء، وقد عشت آلام الناس يومئذ والتنكيل بالأحرار، وكان هناك ملكا أو أميرا أو إماماً قاسي القلب. هو أحمد بن يحي حميد الدين، فكان يُرهب الشعب ويخوفه بإستعمال سيفه الخاص المصكوك صكاً خاصاً، وقد حملت هذا السيف بيدي. وقد قرأت على شفرته الطويلة والعريضة الكلمات التالية: صك هذا السيف بأمر مولانا أمير المؤمنين الإمام أحمد بن يحي حميد الدين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. حدث معي هذا يوم زرت المتحف الخاص بمتروكات أومخلفات الإمام أحمد، وكان برفقتي محافظ تعز لقد حملت السيف وقرأت ما حُفر على شفرته العريضة. وحين حملت السيف بيدي عرفت أنه يزن أكثر من ثلاثة كيلوغرامات وقد قال لي محافظ تعز يومئذ بأن هذا السيف المسنون والمشحذ دائماً وأبداً يظل جاهزاً للإستعمال في عمليات الإعدام – أي قطع الرأس – وإعدام الأحرار والأبطال، وفي الساحات العامة وعلى مرأى من الجماهير الناقمة على النظام المستبد، وعلى أربابه.
الوصول إلى عدنوصلت إلى عدن، وقد سبقني في الوصول إليها شوق بدأ يتفاعل في أعماق نفسي، وكنت أحس بمشاعر الفرح والسعادة، لكوني تغلبت على بعض الصعوبات والعراقيل، التي كانت تقف حائلاً بيني وبين بلوغ عدن للإلتقاء بمن كنت ولا زلت حتى تلك اللحظة أتمنى أن يتم هذا اللقاء دون أية عراقيل. وفي عدن سعيت إلى لقاء حلوة العينين ولم يكن ذلك السعي بدافع الحب والشغف، وإنما فقط من أجل أن أستعيد ما بقي في الذاكرة من ذكريات جميلة، شاركتني فيها إنسانة رأيت فيها جملة من الإيجابيات والقليل القليل من السلبيات.
مفاجأة محزنةلم يكن ليخطر ببالي أبدا أن أواجه هذه المفاجأة المحزنة التي واجهتني وأنا أتحدث إلى شقيقها الذي يملك محلا تجاريا في شارع التواهي الذي يشبه إلى حد بعيد شارع كورنيش المزرعة. ولم تكن مشاعري كلها في حالٍ يمكن لها أن تستوعب أو تتحمل نكسة أو فاجعة، أو خبر وفاة في ظروف طبيعية بل كانت تلك المشاعر تحلق في أجواء لا صلة لها بأجواء الأرض ثباتا.وحينما تعرفت إلى شقيقها وهو مالك المحل، وبعد السلام سألته هل بالإستطاعة الإتصال بالسيدة سعاد لأحيطها علماً بوجودي هنا في عدن وفي محلكم العامر؟وقف الرجل وتناول منديله وبدأ يمسح عيونه التي امتلأت بالدموع، تصور كم يكون وقع هذا الخبر المحزن هائلا على نفسي وقلبي وأحاسيسي وبعض مشاريعي، إنه وقع مؤلم فقلت له: هل يعني بكاؤك هذا أن سعاد وتوقفت عن الكلام فأكمل هو قائلاً ذهبت إلى رحاب الله الواسعة. عند العصر كنت أضع على ضريحها باقة صغيرة من الزهور، ثم قرأنا الفاتحة أنا وشقيقها فوق الضريح وساكنته. إذن، قمت بثلاث زيارات بعد هذه الزيارة إلى عدن الأولى كانت يوم كان الإحتلال البريطاني يمسك بخناق الشعب في عدن، وكانت أجهزة المخابرات فيها تُحصي الأنفاس أنفاس الشعب المكافح البطل. وزيارة ثانية قمت فيها متسللاً يوم انفجر الوضع الأمني والعسكري بين الجيش البريطاني من جهة وبين قوى تحرير الجنوب العربي، من رجس الإحتلال وتخليصه من جرائمه التي يرتكبها هؤلاء ضد ابناء الشعب في عدن البطلة. تلك القوة الوطنية التي حملت إسماً أدخل الرعب في نفوس قوات الإحتلال البغيض الا وهو «الذئاب الحمر» ولقد ظل القتال مستشرياً بين الفريقيين حتى أجبرت بريطانيا على الإنسحاب من عدن ومن جميع المحميات والمشيخات التي كانت تحتلها بريطانيا منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان.ولا أرى مانعاً يحول دون ذكر بعض التفاصيل التي قد تثير الأعصاب، والتي قد تثير إعجاب القارئ أيضاً بما يقوم به كل باحث عن المتاعب وما يواجهه أينما ذهب وإلى أية جهة أتجه من متاعب وأخطار. أول تلك التفاصيل أنني وصلت إلى عدن وأنا أرتدي الثياب العدنية، باعتباري تاجرا للسيارات، وفي طريقي إلى كراتشي. ثانيا كان تنكري بارتدائي الزي العدني واضعاً على رأسي عمامة خفيفة ونظارة سوداء وخف خفيف، وكان يرافقني مواطن عدني مخلص لقضية وطنه ومحباً لبلاده أن تظل طاهرة دون دنس لمحتل يدنسها. هذا الصديق تعرفت عليه في مدينة تعز، وفي أحد المطاعم حيث كانت لنا أكثر من جلسة، فمن هو هذا الصديق العزيز يا ترى؟
الضرورات تبيح المحظوراتإنه عضو في أحد أجهزة المخابرات البريطانية العاملة في عدن، لا تستغرب يا أخي وقديماً قيل الضروريات تبيح المحظورات، وقد عرفني بنفسه ووظيفته بكل جرأة وشجاعة، وطلب إليّ أن أثق به ثقة كبرى، بعد أن كشفت له جانباً من مهمتي الصحفية التي أنوي تحقيقها في عدن.قال لي هذا الصديق: ليس من طبيعة الناس الشرفاء إرتكاب جريمة الخيانة، ولا من شيمهم الغدر أو الإيقاع بالناس الشرفاء في حفر المهالك، وقال: أرجو أن تثق بي ثقة كبرى، وستؤكد لك الأيام القادمة أنني عند وعدي لك وعند عهدي الذي عاهدتك عليه أمام الله كما وأنك يا أخ علي مطلوب منك ألا تكشف أمري ولا تذيع سري أمام أحد من الناس بعدما كشفته لك شخصياً بكامل إرادتي.لقد أقسم أمامي على كتاب الله تعالى أن يحفظ سري وألا يبوح بأمري مهما كلف الأمر. وقد عاهدته أنا بدوري على الإلتزام بهذا القسم وذلك العهد. وإلى الحلقة القادمة وما فيها من مفاجآت.
Leave a Reply