«من جعبة الذكريات» حلقات أسبوعية بقلم الصحافي الحاج علي عبود
قال لي: كيف تريدني أن أصدق صديقنا هذا الذي يروي لنا كيف أنه رأى ليلة القدر المباركة؟ وسألني قائلاً: متى حصل هذا وكيف وأين؟ وهل هذا الكلام هو حقيقة أم أنه غير هذا؟ ثم سكت صاحبي ليقول لي: هل من الممكن واليسير أن يرى إنساننا اليوم، وفي عصر مثل هذا العصر الذي نعيشه ونحياه، هذا الإنسان الذي تتقاذفه الهواجس والظنون المختلفة، وتعيش في أعماقه مجموعات من الشياطين والأبالسة، التي عملت في هذه الأعماق فساداً وإفساداً وتحريضاً وإغراء لارتكاب الموبقات والمحرمات كيف تريدني أن أصدق أن إنسان هذا اليوم الذي لا يتورع فيه عن القيام بمختلف أنواع النصب والتزوير وتغليف الأباطيل بأغلفة الحقيقة الناصعة، ويقدم نفسه بأنه أحد القديسين والأولياء الذين لا يحيدون عن الخط المستقيم سنتمتراً واحدة!هذا المخلوق العابث، بكل المفاهيم والقواعد الأخلاقية محطماً الحواجز والحدود، هل تريدين أن أصدق بأنه من مستحقي رؤية ليلة القدر وأن ينعم بالكثير من رضى الله، وبركاته، فأنا لا أعتقد أن ذلك الأمر – رؤية ليلة القدر المباركة – هو من السهولة بمكان، خاصة في هذا الزمن العصيب والمرّ كالعلقم، أو كالسم القاتل تماماً لا لكونها أمراً غير معقولا ولا يمكن حدوثه أبدا، بل على العكس تماماً فالأمر مرهون بأمر الله تعالى وإرادته ورهن إشارته الذي إذا قال للشيء كن فيكون.سُقت هذه المقدمة البسيطة كي أؤكد بأن كل ما قاله ممكنا حصوله، أن يرى إنسان اليوم وهو على ما هو من تراكمات للآثام في أعماقه، ليلة القدر المباركة، أو ما يشبهها تماماً.لا يمكن لي أو لغيري، أو لأي مخلوق على وجه الأرض أن ينفي وجود هذه الليلة المباركة، وليس بمقدوره إلا أن يعترف إعترافاً تاماص بأنها موجودة وهي قريبة الحدوث شئنا أم أبينا، لأن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى. فهي ليلة مباركة، ولا شك فيها عبادة وخشوع. وهي إحدى ليلي شهر رمضان المبارك إجماعاً وسنة وكتاباص بنص الأية 185 من سورة البقرة التي يقول فيها رب العالمين «إنا أنزلناه في ليلة القدر» وقد اختلفوا في تحديدها فمن قائل هي ليلة 27 وقائل: بل هي 19 أو 21 أو 23. ومن التفسيرات لليلة القدر المباركة والمعنى الظاهر لها. أن الله تعالى يأمر في ليلة القدر، يأمر الملائكة بالنزول إلى كل مكان ومن أجل كل شيء هذا هو الظاهر وما زاد عن ذلك يحتاج إلى دليل. وفيما قاله تعالى عن ليلة القدر، فإن الآيات كلها تعظيم لليلة القدر وأنها رحمة للذين آمنوا وعملوا فيها عملا صالحاً. وأي عمل فيها يؤدي لوجه الله تعالى فهو أمان لفاعله من غضب الله وعذابه يوم تجزى كل نفس بما كسبت. مضى على وجودي في عاصمة سيراليون فريتاون أكثر من ستة أسابيع كنت خلالها سريع التنقل وسريع الحركة وكثير المقابلات واللقاءات مع العديد من الأخوة المغتربين وعلى كافة المستويات.
شهامة مغترب فـي سيراليونجاءني أحد الأخوة، وهو مغترب وصديق حميم ومقيم في فريتاون ويشغل منصب الرئيس لفرع الجامعة الثقافية اللبنانية في العالم فرع سيراليون، وحينما تم اللقاء بيننا، قال لي: تفضل، قلت إلى أين يا أخي، قال: على المنزل لأننا لن نقبل بنزولك في الفندق ونحن هنا شكرته شكرا جزيلا ومن اعماق القلب على عاطفته هذه وعلى شهامته التي لم يتخلى عنها الكثير الكثير من الأخوة المغتربين في ديار الإغتراب. وإن هي إلا دقائق حتى كنا قد وصلنا إلى المنزل – ولم يكن هذا الصديق الكريم سوى الأستاذ هاشم هاشم فهو أحد شباب الجنوب ومن المثقفين الذين درسوا ودأبوا على المطالعة عن كثب.لقد أمضيت في ضيافته ثلاثة أشهر فهو يسكن وحيدا في منزله ما عدا الخادم والسائق وكلهم يأتون صباحاً وفي المساء يغادرون. وأنا في ضيافة الأخ الكريم هاشم هاشم توفرت لي كل أسباب الراحة، وتمكنت من تنظيم مواعيدي وخروجي ولقاءآتي ومقابلاتي الصحفية، وتمكنت أيضا بفضل هذا الإستقرار المنزلي، من كتابة معظم إنطباعاتي وتفاصيل مقابلاتي مع الأخوة أهل الإغتراب، لذا رأيتني أحضر نفسي للقيام بجولة في بعض المدن السيراليونية، وفي صبيحة يوم مشمس رأيتني أتوجه إلى مدينة بو. تتمتع هذه المدينة بسمعة عطرة بين مجموعة المدن والقرى الكبيرة التي جعل منها أبناء الإغتراب موطناً
ثانيا لهم فأقاموا فيها، وأنشأوا المساكن والبيوت والمحال التجارية وأقاموا أمتن العلاقات بينهم وبين أبناء البلاد الأصليين، خاصة العلاقات الإنسانية وحتى المزاوجة أيضاً.ونتيجة لتلك المزاوجة بين أبناء لبنان من جهة وبين أبناء الشعب السيراليوني، كان من نتيجة ذلك التزاوج أن رزق هؤلاء بأبناء وبنات لا هم من الأفارقة تماماً ولا هم من ذوي الألوان البيضاء بل جاء هؤلاء بشكل مزيج بين الأسمر والأسود البعض يقول عن هذا النوع من الأبناء أنهم (ميلاطي) والبعض يقول أنهم من النوع (الحنفصي) بمعنى أنهم بين بين ليس إلا كان هذا كله نتيجة لإمتزاج الدم العربي بالدم الأفريقي ليس إلا.
لقاء مع عميد تجار الألماس فـي مدينة بوكانت الرحلة من العاصمة فريتاون إلى مدينة بو، رحلة حفلت بالكثير من المناظر الممتعة والخلابة فهناك فضلا عن البحيرات الصغيرة التي تتجمع حولها الأصناف العديدة من الحيوانات الأليفة فهناك الجمال والمواشي وهناك الرعاة الذين كانوا يملأون قرابهم وخزانات الماء المصنوعات من جلود الغزلان، والتي توضع على ظهور الجمال لفترة قصيرة، ومن ثم ليصبح الماء الذي تحتويه ماءً بارداً يروي ظمأ كل آدمي عطشان. وإلى جانب هذا هناك الفواكه الأفريقية اللذيذة، التي تباع في الحوانيت القريبة القائمة على جانبي الشارع والأشجار الباسقة التي تمنح الفئ والظلال للسابلة من الأنام وكذلك أطفال المدارس، بثيابهم الموحدة أما حركة المواصلات فأنها قائمة وبشكل منتظم وعلى قدم وساق، إلا أيام تتعرض فيها سيراليون وشعبها الطيب إلى أزمة النفط التي تعاني منها الدول الفقيرة كسيراليون ولبنان، حين تستشرس شركات النفط ووكلائها وتجارها فيصبح الجميع كوحوش شرسة لا شفقة في قلوبها ولا حس إنساني في ضمائرها، فيحجبون النفط بل ويمنعونه عن الشعوب من مضاعفة أسعار المحروقات، وإنتزاع الزيادة على أسعار من جيوب وأيدي الناس والمساكين بوجه خاص دون شفقة أو رحمة. فكما هو قائم في سيراليون كذلك نراه في لبنان التي يبلغ فيه ثمن صفيحة البترول ما يزيد على الثلاثين الف ليرة فقط.
السيارة أمام منزل العميد قاسم بسمةوبعد مسيرة في السيارة استغرقت أكثر من ساعتين، توقف السائق عند باب مكاتب المغترب قاسم بسمة الذي خرج ليرحب بي بلطفه وإنسانيته المشهور بها في أوساط الجالية كلها. وبعد التحية والسلام توجه بي العميد أبو محمد بسمة إلى منزله العامر، وقد أفسح في المجال كي أنال قسطاً من الراحة بعد سفر متعب وفي حمأة شمس حارة وحالة من الرطوبة والسخونة.وعند الغروب، التقينا، وكانت لنا جلسة تحدث إليّ قسام بسمة حديثاً تناول فيه الكثير من القضايا المختلف عليها في أوساط الجالية اللبنانية. وفي اليوم التالي، كان لتاجير الألماس قاسم بسمة، حديثاً آخر عبر فيه عن حزنه وعن خيبة أمله في تحسن الاوضاع الإقتصادية في مدينة بو وفي سيراليون برمتها كما أبدى يأسه الكامل في إمكانية تبدل الأوضاع تبدلا محسونا، وقال: إن معظم الذين يعملون في تجارة الألماس اليوم قد أصيبوا بنكسة كبيرة، وذلك كان لأسباب كثيرة. وقال: إنه منذ أكثر من سنتين وهو يضحي بحثاً وتنقيباً وتفتيشاً عن الألماس في الحقول أو الأراضي التي استأجرها من الدولة أو من أصحابها. والتنقيب عن الألماس كما رأيت الأمر بعيني يتم إستئجار الأرض أولا، ثم يؤتى بمئة عامل من أبناء البلاد ويبدأ الحفر وينقسم العمال إلى فرق مؤلفة من خمسة عمال، يبدأ أربعة منهم في حفر الأرض أما الخامس فهو ينقل التراب بعد حفر الجورة بالتدرج، ويضعه في غربال، نعم في غربال ويبدأ الغربلة وكل فريق قسم من العمال يحفر الجورة وقسم آخر من العمال ينخلون ويغربلون ويستمر الأمر هكذا حتى يظهر الألماس في الغربال أو في المنخل أو لا يظهر وحتى تدوي الصرخة من هنا أو هناك ايترانا بظهور الألماس المنشود.وبالنسبة للصديق قاسم بسمة استمر مجازفاً في عملية البحث والتنقيب، والعمال يحفرون ويتخلون ويتناولون طعام الغداء والعشاء على حساب صاحب العمل، والأكل مؤلف من اللحم والسمك والرز والمرطبات الأمر الذي أنهك قاسم بسمة وتكاد قواه الصحية والحيوية أن تتوقف نهائياً.
القرار المهمهنا رأى صديقنا قاسم بسمة أنه إذا استمر الحال على هذا المنوال فلسوف يضطر إلى بيع عفش منزله حتى يغطي ما يكفي لإطعام العمال وإشباع بطونهم. لذلك رأيناه يتخذ قراراً بالتوقف عن البحث والتفتيش عن الألماس المنشود والذي لم يتمكن قاسم بسمة ولا عمال من القبض عليه ووضعه في سجن إحترازي.لقد شكل إتخاذ القرار في ذلك اليوم الحزين صدمة عنيفة للعمال، ولرب العمل ولعائلته ولأولاده الذين كانوا ينتظرون الألماس وظهوره، على نار حامية، ولكن لم يظهر حتى إشعار آخر.
يوم الرحيلنعم لقد رحلت أنا قبل أيام من رحيل قاسم بسمة وعائلته من مدينة بو. وفي صبيحة ذلك اليوم، كان قاسم بسمة قد أمر عماله بإحضار شاحنتين لنقل عفش المنزل بكامله، والإنتقال من مدينة بو التي لم تبتسم لقاسم بسمة ولم تمنحه ولا بسمة صغيرة، حتى قرر الرحيل نهائيا من بو إلى مدينة أخرى، لعلها هذه تبتسم له ولعائلته بإبتسامة صغيرة تبدل الأمر من حال إلى حال.وعندما كنت أودعه وعائلته، وقبل أن تنطلق بي السيارة عائدا إلى فريتاون قال لي: المعذرة يا أخ علي لعل مستقبلا يوفقنا الله لتحقيق ما كنا نبحث عنه،
ونتمنى الحصول عليه، قلت: إن شاء الله، يتم هذا وعلى بركات الله. ودعته وانصرفت وقلبي حزين لحزنه ولخيبة أمله، ولعدم تحقيق أي نجاح يذكر بعد أن خسر كمية من المال أنفقها على العمال وأجورهم وعلى أكلهم طوال ستة أشهر تقريبا.وقبل أن أغادر بأيام، زرت الموقع الذي يتم فيه البحث عن الألماس، كما زرت جزءاً من النهر الذي وُضعت خراطيم شفط الماء على أرض النهر مباشرة، ورأيت حينما تبدأ ماكينة شفط البحص والماء وتدفع نحو سطح ماكينة الشفط حيث يصل البحص والحصى والرمل وكل ما هو عالق، يصل إلى غرابيل ومناخل الماكينة ثم تبدأ الماكينة بدوراتها وغربلتها حتى يظهر الألماس المنشود.المهم إنني غادرت بو عائدا إلى فريتاون العاصمة ثم وفي اليوم التالي أكلمت رحلتي إلى بقية مدن البر السيراليوني ولالتقي بالعديد من المغتربين وفي طليعتهم الحاج الأديب نعمة مرتضى الذي نعمت بمعرفته في مدينة ماكيني، والذي علمت عنه فيما بعد، أنه أديب وشاعر ومثقف ويحفظ الكثير من القصائد وأنه من خيرة المغتربين الذين يتحلون بصفات إنسانية كريمة لم تتغير في ديار الهجرة أو الغربة أبدا.هذا الرجل الفاضل الكريم، أبى إلا أن أحلّ عليه ضيفاً في منزله العامر. وهكذا فعلت وعند صباح أول يوم أمضيته في منزله العامر طلب إليّ بعد أن تناولنا فطور الصباح، طلب إليّ أن أرافقه بزيارة، فلم أرفض بل رافقته إلى حيث يريد، وإن هي ربع ساعة من الزمان حتى كنت والسيد نعمة مرتضى نقرأ الفاتحة أمام ضريح الحاجة الفاضلة عقيلته، التي توفاها الله هناك. لحظتئذ رأيت السيد نعمة مرتضى يبكي فقدان زوجته التقية الورعة بكاءً مراً. ولنعد الآن إلى سيرة صديقي قاسم بسمة، هل وُفق في بحثه عن الألماس أم أنه استمر يبحث ويبحث وينفق المال حتى نفد المال ولم يبق منه شيئاً مذكوراً. بعد هذا نتساءل وما علاقة قاسم بسمة بليلة القدر المباركة؟ وماذا حصل لقاسم بسمة قبل أن يغادر مدينة بو بساعة واحدة. ولماذا ربطنا تفاصيل دقيقة عن ليلة القدر بالمغترب قاسم بسمة وهو في أشد الساعات قلقاً واضطراباً. وماذا حلّ به بعد ذلك التاريخ. وإلى أين رحل وهل رحل بالفعل أم أن ليلة القدر المباركة هبطت عليه وعلى آله أجمعين هذا ما سندعه إلى حلقة قادمة بإذن الله.
Leave a Reply