لقاءات جديدة مع عميد تجار الألماسستة أشهر مضت على زيارتي الأخيرة للمغترب اللبناني المكافح قاسم بسمة، في مكتبه ومنزله بمدينة بو، والذي اختير فيما بعد ليتولى منصب رئيس جمعية تجار الألماس في المدينة المذكورة بو. لقد مضت تلك الفترة بسرعة صاروخية، كنت خلالها أجول في بعض دول أفريقيا الغربية وبراريها وقراها، محاولا أن أستعيد بعض ما قلته لهذا المغترب المناضل. وأتذكر ما سمعته منه من أحاديث لم تغب عن البال أبداً، لما فيها من معانٍ ومضامين قيمة. لذلك رأيتني أستجيب إستجابة طيبة لما تحرّك في نفسي من مشاعر وأحاسيس نحو مدينة بو وأهلها الأطايب، وممن نعمت بمعرفتهم من مغتربين باتوا لي كأخوة لما لاقيته منهم من مودة صادقة وعواطف أخوية تفيض بكل الود والمحبة والإحترام.
الروابط الإنسانية الحقيقيةومما لا شك فيه، أن ما يربط الناس ببعضهم البعض، ليست السلاسل الحديدية ولا الحبال المجدولة والقوية، ولا الأصفاد والقيود التي توضع حول الأيدي والأعناق، والأرجل ليصبح المرء بعدها أسيراً مقيداً ومشدوداً إلى نير يلتف حول عنقه ليسيّره كيفما يشاء ويريد، من بيده الحل والربط. إلا إن القيود القسرية لم تكن يوماً قادرة على أن تحقق ما يريده الجلاد أبدا، ولا يمكن لهذه القيود ولا للجلاد أن يشد الناس بعضهم إلى بعض لا وألف كلا لأنها قيود يمكن الفكاك منها بعد قتل الجلاد وأربابه. ويمكن الخلاص منه ومنها، إثر تحطيمها بقبضة حديدية، وبيد قوية وإرادة صلبة، عنيت بها قبضة الشعوب الأبية المنتفضة على كل ظلم وظالم، وعلى القيود كلها مهما تنوعت أشكالها واختلفت أهدافها أيضا. وذلك كله يتم دائماً، على يد الأبطال والأحرار وإراداتهم التي تقهر ولا تُقهر، والتي لا بد للقدر أن يستجيب مهما نأى عنها أو ابتعد.
روابط الحب والتآخيإنما الذي يربط ويشد الناس بعضهم إلى بعض هي روابط الحب والتآخي، روابط المودة والإلفة، روابط التعاطف والتآزر الإنساني وأيضا التلاحم الأخوي الذي ليس لهذه المشاعر جميعها سوى ينبوعاً واحداً هو ينبوع القلب والضمير والوجدان. إن هذه الروابط، هي اشد وأقوى وأمتن من أية روابط أخرى، إنها حبال متينة وصلبة، وغير منظورة أبدا. إنها تفعل فعلها، وهو الأقوى من فعل جميع السلاسل والأغلال وكل القيود مجتمعة! لذلك، إستجابة لتلك الروابط والمشاعر النبيلة رأيتني أتوجه إلى مدينة بو حيث الأهل أهلي والخلان خلاني.
ما أجمل المشاعر الإنسانية الصادقةلقد توجهت إليها والنفس ممتلئة بالمشاعر الطيبة والأحاسيس النبيلة التي تفاعلت في النفس سعياً للقائي بالعديد من الأخوة أهل الإغتراب، الذين رعوني رعاية أخوية كريمة لا يمكن لها إلا أن تظل خالدة في أعماق النفس إلى المدى الأبعد. وحين وصلت إلى مدينة بو، توقفت بي السيارة أمام مكاتب المغترب المكافح قاسم بسمة فقد رأيت لحظتئذ بعض التغييرات في الشكل العام وذلك عند مدخل مكاتب الشركة التي يديرها المغترب الصامد قاسم بسمة. وهو رئيس جمعية تجار الألماس في المدينةالمذكورة. وحينما كنت أصافحه، رأى على وجهي أكثر من علامة تساؤل وإستفسار فقال لي: نعم، لقد أحدثنا بعض التغييرات والإصلاحات تمشياً مع سُنة الكون: التطور المستمر.هنا سألته، عما إذا كانت هذه التغييرات دليلا على إنفراج الأزمة التي كانت تتحكم بالوضع الإقتصادي في المنطقة ككل. قال: شيء من هذا القبيل حصل. وتابع يقول: لقد مرّت على الجميع هنا بعض الظروف القاسية، لم ينحصر أمرها بشركة أو بمؤسسة واحدة، إنما شملت قساوتها جميع الشركات العاملة في حقول البحث عن الألماس في هذه الديار، وكذلك الشركات التي تستخدم الشفاطات التي مهمتها شفط المياه من القنوات والجداول وبعض الأنهار وكذلك الأراضي الغنية التي يجزم أهل الخبرة والمعرفة بأنها أراض وحقول تحتضن في جوفها الألماس الذي لا يمكن الحصول عليه إلا بشق النفس.
أخ قاسم: هل رأيت ليلة القدر؟سألته قائلاً: أخي قاسم، هل رأيت ليلة القدر المباركة، خلال هذه الأشهر الستة التي أمضيتها أنا بعيدا عن سيراليون وعن مدينة بو وأهلها الأكارم؟ قال: لا، ولكن الله هو الرزاق الرحيم. وتابع كلامه قائلا: أنا لم أر ليلة القدر تماماً لكنني رأيت ما يشبهها فعلا، وأنا لا أستطيع أن أروي لك التفاصيل بدقة، بل كل ما يمكن لي القول: قررت يوماً أن أغادر أنا وأهل بيتي مدينة بو لننتقل إلى مدينة أخرى، لعلّنا نجد فيها الشيء الذي افتقدناه هنا يومئذ من أمور ضرورية كالمال، الذي هو عصب الحياة بالنسبة لكل مغترب هاجر وطنه وابتعد عن أهله وأحبابه، وجاء إلى هذه الديار الكريمة ليبحث عن رزقه الحلال وليؤمن قوته وقوت عائلته ويتغلب على مصاعب الحياة. لقد مررت وعائلتي بظروف صعبة بعدما أنفقت الكثير من المال على عمليات البحث والتنقيب عن الألماس، وكنا نعمل بشكل قانوني وسليم، وكل شيء مرخص لنا بموجب التراخيص والأذونات القانونية ولقد أمضينا فترة طويلة من الزمن في عمليات الحفر والتنقيب دونما فائدة تذكر حينها تعبنا وكدنا نتعرض لإفلاس كبير لولا لطف الله وقدرته.
يوم الرحيل الذي لم يتحققوفي يوم الرحيل، شاحنتان وقفتا أمام باب المنزل والمكتب معاً وأخذ العمال ينقلون العفش من المنزل والمكتب إلى صناديق السيارتين وفيما كنت منهمكاً في تعبئة الشاحنتين بعفش المنزل والمكتب تلقيت إتصالاً تلفونيا من أحد الأصدقاء يعلمني بتأسفاته لمحاولتي مغادرة مدينة بو وقد استغرقت هذه المكالمة التي تسلمتها في مكتبي حوالي ثلث الساعة تاركاً زوجتي خارج المكتب وهي تشرف على ترتيب العفش في صناديق السيارتين.
المفاجأة الكبرىوحينما انتهيت من حديثي التلفوني مع ذلك الصديق خرجت من المكتب لأتابع عملية نقل العفش إلى الشاحنتين رأيت زوجتي أم محمد وقد وضعت أكثر من كرسي أمام طاولة صغيرة، ثم أسرعت إلى المطبخ لتحضر ركوة القهوة وبكل أعصاب باردة، جاءت أم محمد بعدها ودعتني لتناول فنجان القهوة التي صنعتها بسرعة وخلال المدة التي كنت أتحدث فيها تلفونياً مع الصديق. هنا ثارت ثائرتي على أم محمد لكنها أصرّت عليّ أن أجلس وأشرب القهوة معها وبهدوء تام. فانفجرت صارخاً في وجهها، لأن الوقت ليس وقتا لتناول القهوة أبدا، بل كان الوقت مخصصاً لنقل العفش إلى السيارات وبأعصاب حديدية جذبتني إلى حيث وضعت القهوة والكراسي والتربيزة قائلة لي استريح. فاسترحت. لقد تم ذلك كله وأنا في غاية الدهشة مما يحصل أمام وتحت بصري وعيوني. وحينما هدأت أعصابي قالت لي وبكل ثقة: لن نغادر مدينة بو، قلت: كيف ولماذا؟ قالت: لقد أمر الله ألا نغادر هذه البلدة الطيبة الكريمة ولسوف نبقى هنا بإذن الله، وما يأمر به الله يتم بسرعة دونما أي إعتراض. هنا خشيت على زوجتي أم محمد أن يكون قد مسها طائفاً أفقدها القدرة على التركيز! قالت بالفم المليان لحظتئذ: لن نغادرهذه المدينة وأنا أمرت العمال بإعادة العفش إلى المنزل والمكتب معاً. هنا كدت أفقد عقلي وكادت رأسي تنفجر في وقت كانت فيه زوجتي قد رشفت آخر قطرة من فنجان القهوة مرددة قولها لي وبقوة: لن نغادر مدينة بو لأن الله اراد لنا أن نبقى هنا. انتهى حديث الصديق قاسم بسمة.وأنا بدوري لا أسمح لنفسي أبداً أن أروي ما حدث وما سمعته من الزوجة الفاضلة، وما جري خلال ثلث الساعة التي أمضاها قاسم بسمة في حديث تلفوني مع صديق له، ولن أسمح لنفسي أبدا أن أروي أو أن أكشف السر الذي فرض على أم محمد وزوجها قاسم بسمة أن يُلغيا فكرة الإرتحال من مدينة بو إلى مدينة أخرى، وليس مسموحاً لي أن أروي أية تفاصيل تتعلق بالأمر الذي فرض على قاسم بسمة وعائلته أن يبقوا في مدينة بو، حتى يومنا هذا. غير أن الذي يمكن لي أن أقوله أن قاسم بسمة وعائلته لم يروا ليلة القدر أبداً، تلك التي تحدثنا عنها في حلقتنا الأولى من هذه الحلقات وإنما رأى شيئاً آخر كان كليلة القدر فقط وأكثر من هذا ليس من المباح الكلام فيه إطلاقاً.بعد ذلك التاريخ إستطاع المغترب قاسم بسمة الذي كان على وشك الرحيل من بو إلى مدينة أخرى إستطاع أن يبني بناية فخمة وأن ينشئ على شاطئ النهر أكثر من شاليه فخمة، ثم أقام بيتاً للضيافة وحينما وصلت إلى بو، طلب إلى أحد موظفيه أن يأخذني إلى الشاليه رقم 3، وبعد أن تناولنا القهوة توجهت مع الموظف إلى الشاليه رقم 3 حيث أخذت قسطاً من الراحة وأنا بحالة لا أستطيع أن أخفي سعادتي وسروري مما سمعته أذناي وما رأته عيناي وما لمسته من تبدل واضح شمل جميع أمور العائلة برمتها.ومن يريد أن يتحرى أو يعرف ما إذا كان قاسم بسمة وعائلته قد رأوا ليلة القدر فمن الجائز أن يكون الجواب على هذا السؤال بلا والله أعلم.
«من جعبة الذكريات» حلقات أسبوعية بقلم الصحافي الحاج علي عبود
Leave a Reply