أردد دائماً، أصدقائي الذين أحب يغيبون عنّي، بعضهم تختطفهم ظلمات الغربة وبعضهم الآخر يضلون في صحراء الحياة، وبعضٌ آخر تغيبهم الأرض. وكلّما غاب واحدٌ منهم، أحس أن غصناً منّي قد إنقطع، ولكأني بعد قليل سأصبح مجرد عمود من الخشب، كان يوماً ما شجرة وارفة.
وهذا هو العزيز جمال، يؤثر الرحيل على البقاء، واصطاده الموت بعد عناء وكنت أظن أنّه عصيٌّ عليه، بعد فترة مرض طالت واستطالت حتى غيّبته بعيدا عن أحبّته وأصدقائه. رحل بصمت في منتصف شهر رمضان المبارك، وهو الشهر الذي تفتح به أبواب الجنة.
لا أصدق أنك مت، فأنت فقط، أرحت قدميك من تجوالٍ يوميّ، وسلّمت أنفاسك لعتمة النوم، وما عُدت تشقى لسماع أنين قلبك، أجل يا صاحبي جمال ديراني، تعوّدت أن تحزن لأن الجميع مقصّرون بحقك، فالحياة تأخذ من الجميع يا صديقي، وتبدّل جلدها كلّما لمع بريق آخر.
في الأوقات القليلة التي كنا نجلس فيها معاً، كان يطيب له أن يحدثني عن بيروت ودمشق، عن الزمن الجميل.
«كان بهياً ذاك الزمان يا مريم، والمصيبة أننا لم نكن نعرف أنّه بهيّ، كنّا دائمي الشكوى من ذلك الزمان، حتى أتانا هذا الزمن العربي من دون الأزمان، زمن غريب عجيب وراءه أفضل من أمامه وماضيه أجمل من حاضره».
إنطوت مرحلة مشرقة من تاريخ الإعلام العربي المهجري مع رحيل أستاذ جيل وكاتب مميز، المرحوم جمال ديراني، المشرقة عباراته، المثقفة أفكاره، الطريفة ابتكاراته، أما في الفكاهة والسخرية، فهو سيد الجلسات التي تعز عليك مغادرته قبل أن يفرغ من نكاته، وتشنيعاته التي لا توفر كبيراً «متعنطزاً» أو مدّعي رفعة و«شايف حالو ومش مصدق».
ينتمي الأستاذ جمال ديراني إلى جيل الرواد المؤسسين للإذاعة العربية في ميشيغن، وقد عمل في الإعلام لسنوات طويلة في الشرق، وهنا في إذاعات البث العربي المهجري، وكانت له بصمة لا تنسى في التقديم المميز للبرامج الثقافية والاخبارية والاجتماعية، وقد رعى وقدّم أصواتا عديدة لكن القدر لم يسمح له في رعاية جيل جديد من المذيعين، وتقديم الأفضل والاجدر من بينهم على العادي، أو على القادم إلى الإعلام طلبا للرزق، ولا يهمه أن يتسلق ولو على حساب الاكفأ، والأقدر، والأكثر إخلاصا للمهنة الإعلامية، لا الإعلانية الرخيصة المملّة.
منذ مدة طويلة، انطوى جمال ديراني، وهو ملك الظرفاء والساخرين، على نفسه واعجزته صحته وهموم الذاكرة المثقلة بالمقارنات، بينما ما كان عليه الإعلاميون، أيام الأفكار والابتكار والطموحات، وما صارت اليه بعد فك الارتباط مع ذاتها، وانحدرت إلى زمن الانحطاط، ومحترفي نفاق الأعلى ولو كان سفيها، والمتسكعين على أعتاب الإعلان.
جمال ديراني، الأديب والإعلامي، الفكاهي بامتياز، صاحب الذاكرة الذهبية الحافظة للشعر، كما تدل الفترة التي شهدتها بصوته الإذاعة العربية في ديربورن، غادر دنيانا هذا الأسبوع ممتلئا بالحسرة على بلاده سوريا، ومعها بلاد العرب جميعا، الغارقة في همومها إلى حد نسيان اسمها.
الأستاذ جمال، آلمني رحيلك المبكر وأجهشت بالبكاء لغيابك لأني خسرت إنساناً نبيلاً يفرض صداقته ووده، ولو أن لدي ما يكفي من الدموع لذرفتها الآن وفاءً للضحكات التي منحتها لي.
Leave a Reply