مريم شهاب
رحيل الأحبة صدعٌ فـي القلب ومصدر للحزن النابع من فراقهم. لا أتصور شيئاً أقسى على الوالدين من فقدان ولد. وهو ما عبر عنه بسمارك وهو على فراش الموت حين قال «أحمد الله أن أموت دون أن أشهد موت أحد أبنائي».
وليس أقسى من الحياة فـي الغربة إلا وقع الموت فـيها. خصوصاً عندما يأتي صاعقاً وضارباً دفعة واحدة وبلا مقدمات. ذلك الموت الرحيم الذي لا يشاء لضحيته أن تعاني فـي فراشها ببطء وإنتظار النهاية بين تساؤلات المشفقين وتحاليل الأطباء وبرودة المستشفـيات.
لا تنفع الكلمات مهما رقّت فـي وصف الحزن الشديد عندما إختار ملاك الموت الصاعق، الأسبوع الماضي، شاباً يفـيض وسامة ورجولة بادية فـي ملامحه وقامة مستّلة من الفولاذ وعينيين تشعان نوراً وأملاً ووجهاً كريماً كأغمار الحنطة. ربما لم يشكُ أبداً من وهن أو مرض أو صداع، لكنه الموت الذي يأتينا ولو كنا فـي بروج مشيدة، وفـي أي أرض نكون.
كانت أمه فـي لبنان، تصلي لله شكراً لأن إبنها بعيد عنها ويعيش فـي مكان آمن فـي المهجر. وأبوه كان ينتظره ليزفه عريساً وهو إبنه البكر. لكن الموت كان أسرع وإرادة الله التي لارادَّ لها، أطفأت باكراً الإبتسامة المشعة وأغمض الشاب قاسم وفـيق عبد النبي عينيه إلى الأبد.
صدمة وفاته زادت مساحة العتمة هنا فـي أوساط الجالية بديربورن، وبعد رحيله بأيام فجعت الجالية برحيل رجل طيب وكريم وآدمي. ولو أن للفقراء من بسطاء الناس الكادحين من يؤرخ سِيرَهم الذاتية، لكان «أبو هيثم، أديب شهاب» قد غدا بطلاً لرواية عن مواجهة المستحيل بالإرادة، حيث بدأ مشوار حياته القصير من الصغر متسلحاً بإيمانه وإستعداده لأن يحفر فـي الصخر.
لم تفارقه إبتسامة الدّعة والتسامح والكرم والتغاضي عن مرارات الحياة والبشر. وبعد سنوات الغربة الباكرة فـي الكويت حطت به رحال الحياة وأمواجها هنا فـي ديربورن، بعيداً عن والديه وأخوته. محبته للحياة وللناس وكرمه وتسامحه جعل الجميع يحبونه كإبن، كأخ أو كصديق ورفـيق فـي ليالي الغربة القاسية الباردة، فكان يستعيد حيويته وظرفه وطيبته الزائدة وكرمه ودوماً تغاضيه عمن يسيء إليه أولمن يأكل ولا يشكر، فـي التقرب إلى الآخرين وخدمتهم.
قط لم تكن المعركة متكافئة يا أبا هيثم. ومع ذلك خضتها بقوة: صارعت الداء بشجاعة، مطمئناً الأصدقاء أنك بخير، ومستعيناً برفـيقة الدرب، أم هيثم، وإبتسامتها مثل اسمها تداري بها قلقها عليك وهي ترفع يديها إلى مصدر الرحمة. بينما العائلة والأحبة هنا فـي ديربورن وفـي لبنان يبتهلون إلى الله بحرارة بأن يشفـيك من المرض ويحفظ بيتكما ملتقى الأحبة والأصدقاء حيث يشعر الجميع بحرارة الود العميق والترحيب الذي يشع من وجه أم هيثم وسائر الأبناء والبنات والأحفاد.
لقد بكرت بالرحيل، أبا هيثم، أيها الإنسان المكافح الحامل وجع بلده لبنان فـي قلبه وروحه. الذي ربّى أولاده ودعم عائلته من عرق جبينه.
إبن العم الحبيب أديب شهاب الودود الصادق فـي محبتك لجميع الناس، سوف يفتقدك الجميع وسوف نشتاق إلى ضحكتك المميزة إذ حتى حين جاءك ملك الموت ، مازحته قائلاً: لماذا تأخرت؟! هل لأنك إشتقت إلى تراب برعشيت ليضمك بحنان مثل حضن الأم؟.
الرحمة لروحك الطاهرة وإلى روح الشاب الوسيم قاسم عبد النبي وخالص العزاء للأهل والأحباء.
Leave a Reply