لا تأتي أهمّيّةُ أنسي الحاج من كونِهِ شاعراً ذاعَ صيتُهُ في المحافلِ الأدبيّة العربيّة من محيطِها إلى خليجِها، وفي الكثير الكثير من الأروقةِ الثقافيّة العالميّة، وإنّما من كونِهِ حملَ مِعْوَلَهُ، وهو بعدُ لمّا يزلْ طالِباً على مقاعِدِ الدراسة يواصلُ تعليمَهُ الثانوي، وراحَ يحفرُ في صخورِ الأدبِ العربي كلماتِ التجديد، حتّى كأنّما أنطقَ ذلك الصخر، فسرى نهجُهُ التجديديّ في الكتابةِ، إلى مختلف صفحاتِ الناطِقين بالضاد، تضافُ إلى تلك الأهمّيّةِ أبهاءُ استقلاليّتِهِ الفكريّة ذات الخصائص المُجدِية النادرة، تلك الإستقلاليّة التي حرّرَتْهُ من هيمنة التحجيمِ الأيديولوجي الذي غالباً ما يفرض قيودَهُ على أدواتِ الكاتب ومنطَلَقاتِهِ في الكتابة، فعاشَ شاعراً وكاتِباً منحازاً إلى الصياغة الأدبيّة العربيّة المُشرِقة والجديدة في آنٍ معاً، بحجمِ انحِيازِهِ إلى الإنسان في مواجهة محنتِهِ الكونيّة، بدءاً من تجاويف وإشكاليّات الجدل الفكري وليس انتِهاءاً بعقدةِ التفاوت الطبقي بينهُ وبين أخيه الإنسان الآخر.
وشأنهُ شأن المجدِّدين عبرَ التاريخ، قد تعرّضَ نتيجةً لذلك إلى المحارَبة والتضييق، فعندما أصدرَ ديوانَهُ الأوّل «لن» في العام 1960مهّد في مقدّمتِه لبيانِه الشعريّ لقصيدة النثر، حيث أعلَنَ:
«لتكون قصيدةُ النثر قصيدةَ نثر، أي قصيدة حقّاً لا قطعة نثر فنيّة أو محمّلة بالشعر»، شروط ثلاثة: الإيجاز (أو الاختصار) التوهج، والمجانية.
لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضاً على الصرامة والقيد، أليست هي وحتى الآن تلك التي طالب بها رامبو حين أراد «العثور على لغة تختصر كل شيء، العطور، الأصوات، والألوان»، وبودلير، عندما قال إنّه من الضروري استعمال شكل «مرن ومتلاطم بحيث يتوافق وتحركات النفس الغنائية، وتموّجات الحلم، وانتفاضات الوجدان» .
إنها الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع، والغل. انتفاضة فنيّة ووجدانيّة معاً، أو إذا صحّ، فيزيقيّة وميتافيزيقيّة معاً.
ويصف شاعر قصيدة النثر بأنه شاعرٌ حرّ، وبمقدار ما يكون إنساناً حرّاً، أيضا تعظم حاجته إلى اختراعٍ متواصلٍ للغة تحيط به، ترافق جريَه، تلتقط فكرَه الهائل، ليس للشعر لسانٌ جاهز، ليس لقصيدة النثر قانونٌ أبديّ.
وبعد أن وصلتْ مجلّتُهُ «شِعر» إلى بغداد، سرعان ماهبَّ أعداءُ التجديد إلى محاربة أفكارِهِ، حتّى لم يكتفوا بمنعِها، بل راحوا إلى مصدرِ القرار في سلطة تلك الأيّام فصدرَ قرارٌ من ما كان يُسَمّى بـ«مجلس قيادةِ الثورة» الذي هو أعلى سلطة في البلاد منعَ بموجبِهِ نشر قصيدة النثر الأمر الذي أثارَ صجّةً إحتِجاجيّةً في الأساطِ الأدبيّة العربيّة، فغدا القرار سيّء الصيتِ ذاك مصدراً للتهكّمِ والإحتِقار، ورغم ذلك كنّا نحن طلّاباً في بداية المرحلة الجامعيّة نتداولُ ديوانَهُ ومجلّتَهُ «شِعر» بشغفٍ واعتِزاز.
يقول عنهُ أحدُ مجايِليه: «لم يكن أنسي الحاج من الروّاد الأساسيّين العرب لقصيدة النثر، فقط، بل كان أوّلَ شاعرٍ عربي يصدر ديوانا (عام 1960) يجرؤ على التعريف به على أنه «ديوان نثر»، وهو لا يزال في الثالثة والعشرين. وتضمن ديوانه هذا الذي حمل إسم «لن» وصار أشهر من نار على علم، المقدمة الشهيرة التي تحولت إلى بيان حول قصيدة النثر، ورؤيته ومعايشته لها. هذا مع أن شعراء عربا كانوا قد كتبوا قصيدة النثر قبله ونشروها. وحين سئل أنسي الحاج عن هذا الأمر في إحدى مقابلاته الصحافية قال: «أدونيس هو المنظّر الأول لقصيدة النثر في اللغة العربية، ومجموعة الماغوط، «حزن في ضوء قمر» صدرت قبل «لن» بعام كامل. لكن «لن» هي أول مجموعة ضمّت قصائد نثر عرّفت عن نفسها علناً بهذا الإسم، وبشكل هجومي، ورافقتها مقدّمة جاءت بمثابة بيان». وهو ما فتح باباً واسعاً للنقاش والنزال في الساحة الشعرية العربية.
كما يقولُ عنهُ صديقُهُ الشاعر شوقي أبي شقرا: «وهو على هذا النحو، كيف يمكن للأوزان والقوافي أن تطيقه وأن تتحمّل مخالبَه في أسرِها، في إطارها؟ وكيف يمكن لإنسي الحاج ذاته أن يبقى عند حدود المتعارَف عليه، عقلاً وعاطفة وخيالاً، فلا يحيد إلى مسافة شاسعة عن الحدود والإمكانات البصرية والذهنية؟ وكيف يبقى موزوناً ومقفّى»؟
فلا بد من النثر، وكان نثرهُ تلك العاصفة، كان أجنحة فوق أجنحة، فوق أجنحة، وكان إلحاحهُ على النثر أنْ غدا النثر جوهراً في الشعر.
سيرته المهنية
– بدأ ينشر قصصاً قصيرة وأبحاثاً وقصائد منذ 1954 في المجلاّت الادبية وهو على مقاعد الدراسة الثانوية.
– دخل الصحافة اليومية، جريدة «الحياة» ثم «النهار» محترفاً عام 1956، كمسؤول عن الصفحة الادبية. ولم يلبث ان استقر في «النهار» حيث حرر الزوايا غير السياسية سنوات ثم حوّل الزاوية الادبية اليومية إلى صفحة ادبية يومية.
– عام 1964 أصدر «الملحق» الثقافي الاسبوعي عن جريدة «النهار» وظلّ يصدره حتى 1974. وعاونه في النصف الأول من هذه الحقبة شوقي ابي شقرا.
– عام 1957 ساهم مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة «شعر» وعام 1960 اصدر في منشوراتها ديوانه الأول «لن»، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية.
– له ستّ مجموعات شعرية «لن» 1960، «الرأس المقطوع» 1963، «ماضي الايام الآتية» 1965، «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» 1970، «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» 1975، «الوليمة» 1994 وله كتاب مقالات في ثلاثة أجزاء هو «كلمات كلمات كلمات» 1978، وكتاب في التأمل الفلسفي والوجداني هو «خواتم» في جزئين 1991 و1997، ومجموعة مؤلفات لم تنشر بعد. و«خواتم» الجزء الثالث قيد الاعداد.
– تولى رئاسة تحرير العديد من المجلات إلى جانب عمله الدائم في «النهار»، وبينها «الحسناء» 1966 و«النهار العربي والدولي» بين 1977 و 1989.
– نقل إلى العربية منذ 1963 أكثر من عشر مسرحيات لشكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت وسواهم، وقد مثلتها فرق مدرسة التمثيل الحديث (مهرجانات بعلبك)، ونضال الأشقر وروجيه عساف وشكيب خوري وبرج فازليان.
– رئيس تحرير «النهار» من 1992 إلى 30 أيلول 2003 تاريخ استقـالته.
– تُرجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والارمنية والفنلندية. صدرت انطولوجيا «الابد الطيّار» بالفرنسية في باريس عن دار «أكت سود» عام 1997 وانطولوجيا «الحب والذئب الحب وغيري» بالألمانية مع الأصول العربية في برلين عام 1998. الأولى أشرف عليها وقدّم لها عبد القادر الجنابي والأخرى ترجمها خالد المعالي وهربرت بيكر.
فـي سطور
– ولد عام 1937 و توفي في 18 من شباط 2014
– أبوه الصحافي والمتّرجم لويس الحاج وامه ماري عقل، من قيتولي، قضاء جزّين.
– تعلّم في مدرسة الليسه الفرنسية ثم في معهد الحكمة.
– متزوج من ليلى ضو (منذ 1957) ولهما ندى ولويس.
Leave a Reply