غيّب الموت، الأسبوع الماضي، الصحافـي المصري محمد حسنين هيكل عن 93 عاماً أمضى 75 منها صحافـياً وفـياً لمهنته وزملائه، مطوّراً حضوره المهني حتى دخل كل غرف القرارات وحاز ثقة أهم رجالات الدولة فـي مصر ودنيا العرب والعالم.
وكان الراحل المخضرم قادراً على جذب المعلومة إليه بدل البحث عنها، كما كان حاضراً فـي اللحظات الحاسمة لإتخاذ القرارات المصيرية، فقد سمع ما قاله الرئيس جمال عبد الناصر فـي أهم مفاصل القرارات التي إتخذها عام 1967، وعرف بقرار الرئيس أنورالسادات خوض الحرب ضد إسرائيل عام 1973، وأدرك أن الرئيس حسني مبارك لن يصمد كثيراً أمام زلزال الجماهير وسيستسلم. وروّج للرئيس عبد الفتاح السيسي وإعتبره رئيس الضرورة لمصر بعد الثورة.
عرف بتواضعه الآسر، وهو ما اعتبره هيكل نفسه.. السرّ فـي نجاحه، كما عزف عن المناصب رغم إلحاحها عليه بالجملة، واكتفى بتلبية رغبته الجامحة فـي ممارسة دوره كصحافـي يبحث وينقب ويطرق الأبواب، وهو الذي باتت الأخبار تصله من تلقائها، بحكم علاقاته العامة الواسعة التي أسّست لمركز الأبحاث الذي أنشأه ليكون مرجعية حقيقية لكل باحث عن المعلومة الصحيحة فـي جوانب تاريخ المنطقة، وهو جاهز لخدمة الموضوعات التي يعنى هيكل بها ويريد قول شيء عنها، عندها يكلف عدداً من الباحثين الإستحصال على ما أمكن من معلومات عن هذا الموضوع، فـيتم تلخيصها وتقديمها إليه ليضع روحه النصّية فـي السياق الخاص بها.
وقبل أن تشهد «صاحبة الجلالة» الانقلابات الكبيرة بسبب الثورة المعلوماتية، كانت المعلومات هاجساً له فـي حياته المهنية فما إشتغل على مقالة أو تحقيق إلاّ بناء على أكبر دور للحيثيات والأخبار الصغيرة المتفرقة، بحيث يكون الفوز أخيراً من حظ القارئ.
مواظبته على العمل الصحافـي التي امتدت على مدى عدة عقود وتخللها رئاسته لصحيفة «الأهرام» المصرية لمدة 17 عاماً لم تثنه على تأليف العديد من الكتب التي باتت مرجعا لكل المهتمين بشؤون السياسة، ومن بينها: فلسفة الثورة، مدافع آية الله، قصة إيران والثورة، من المنصة إلى الميدان: مبارك وزمانه، زيارة جديدة للتاريخ، الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، ملفات السويس، سنوات الغضب، حرب الخليج: أوهام القوة والنصر، أكتوبر 73: السلاح والسياسة.
اتهم هيكل أكثر من مرة بأنه من أمهر السياسيين كونه ظل محافظاً على توازنه وحظوته مع كل العهود التي تعاقبت على مصر طوال 55 سنة، وكلما حصل إشتباك مصالح خرج هيكل من الصورة، ودخل فـي مناخ آخر مناقض لعمله السياسي خصوصاً أو الصحافـي عموماً، حتى تهدأ العاصفة.
ولد محمد حسنين هيكل فـي عام 1923، فـي حي الحسين جنوب القاهرة، لأب من جذور صعيدية، كان يعمل تاجرا للحبوب، وكان يرغب فـي أن يكون ابنه طبيبا. لكن الأٌقدار اختارت له طريقا آخر، وهو الصحافة. ونظرا لظروفه المادية الصعبة، التحق بمدرسة التجارة المتوسطة، ثم بالجامعة الأميركية، حيث تعرف على سكوت واطسون الصحافـي بـ«إيجيبشين غازيت»، الصحيفة الأجنبية الأولى فـي مصر، الذي نجح بإلحاق هيكل بالجريدة وهو فـي عمر 19 عاماً، كصحافـي تحت التمرين بقسم المحليات.
وعندما استعرت الحرب العالمية الثانية، أصبح دور هيكل ترجمة ما تنقله وسائل الإعلام الأجنبية عنها. وقد كلف أثناء عمله بتغطية وقائع الحرب الدائرة فـي منطقة العلمين، ثم سافر بعد ذلك ليغطي الحرب فـي مالطا، وفـيما بعد إلى باريس، التي التقى فـيها بالسيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة «روز اليوسف»، والتي قررت نقل الصحافـي الموهوب فـي عام 1944 إلى مجلتها، حيث تعرَّف إلى محمد التابعي، لينتقل معه إلى مجلة «آخر ساعة»، التي قدم على صفحاتها «خبطات» صحافـية أهلته للحصول عن جدارة على «جائزة الملك فاروق»، أرفع الجوائز الصحفـية بمصر فـي ذلك الوقت. ثم انتقل هيكل بعد ذلك إلى العمل فـي جريدة «أخبار اليوم» مع التوأمين علي ومصطفى أمين، والتي شهدت سباقات هيكل الصحافـية: من تغطيته لحرب فلسطين إلى انقلابات سوريا، ومن ثورة محمد مصدق فـي إيران واغتيال الملك عبدالله فـي القدس إلى اغتيال رياض الصلح فـي عمان، واغتيال حسني الزعيم فـي دمشق. ليستمر به المشوار حتى توليه رئاسة تحرير «آخر ساعة»، وقد بلغ من العمر 29 سنة، قبل ثورة يوليو بنحو شهر فقط.
وبعد وفاة الرئيس عبد الناصر، وقف هيكل بكل قوة مع الرئيس السادات للقضاء على مراكز القوى، غير أنه ومع مرور الوقت، نشبت خلافات عنيفة بين الصحافـي والرئيس، فأقاله السادات من «الأهرام» بقرار رئاسي، ليُلقى القبض عليه إبان اعتقالات 1981 قبيل اغتيال السادات، إلى أن أفرج عنه الرئيس محمد حسني مبارك، وليبدأ رحلة جديدة تحول معها من كاتب إلى مفكر ومؤرخ وسياسي من طراز فريد.
قدم هيكل للمكتبة العربية نحو 40 كتابا، ترجم معظمها إلى نحو 30 لغة، من أبرزها: «خريف الغضب» و«عودة آية الله» و«الطريق إلى رمضان» و«أوهام القوة والنصر» و«أبو الهول والقوميسير». بالإضافة إلى مجموعة «حرب الثلاثين سنة» و«المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل». وظل هيكل حتى النفس الأخير يقدم النصائح للزعماء والقادة العرب والمصريين، وظل حتى وقت قريب يقوم بزيارات خاصة إلى الزعماء والقادة العرب يعامل فـيها كالقادة والملوك.
وحين بلغ عامه الثمانين فـي 2003 كتب سلسلة مقالات عنوانها «استئذان فـي الانصراف.. رجاء ودعاء وتقرير ختامي» ولكنه كان يكتب بين حين وآخر عن رحلة أو تجربة فـي صحف ومجلات منها «الكتب.. وجهات نظر» بالتوازي مع تركيز الاهتمام فـي برنامج «مع هيكل.. تجربة حياة» على مدى سنوات فـي قناة «الجزيرة» أيام ذروتها، قدم فـيها شهادته على العصر من خلال سيرته المهنية.
وكما سجل الأستاذ هيكل سلسلة حلقات لقناة «سي.بي.سي» التلفزيونية المصرية مع المذيعة لميس الحديدي بعنوان «مصر أين؟ ومصر إلى أين؟» اعتبارا من كانون الأول 2012 تناول فـيها الأوضاع السياسية فـي مصر والمنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي.
تزوج من السيدة هدايت تيمور منذ عام 1955 وأنجب منها ثلاثة أبناء هم علي (طبيب) ورجلا الأعمال أحمد وحسن.
Leave a Reply