طالعنا الشيخ طالب السنجري في جريدة «صدى الوطن» (العدد 1148/8 شباط 2008) بآراء غريبة حول الشعائر الحسينية من خلال حوارله مع علي سليمان. وإذ نأسف أن تكون اطلالة الشيخ على جمهور الجالية العربية بهذه السطحية البعيدة عن النزاهة العلمية، آلينا أن لا نردّ على آرائه إلا بحجج دامغة لا تحتمل التأويل.
ادّعى الشيخ السنجري أنّه فهم من رسالة الحسين (ع) ما لم يفهمه جهابذة علماء الشيعة ومفكريهم على مدى أربعة وعشرٍ من القرون وضرب عرض الحائط بمئات الاحاديث عن الأئمة الاطهار الذين كانوا يحثون متّبعيهم على اقامة المجالس لأبي عبدالله الحسين والمبالغة في البكاء عليه. كما جاء في الحديث: «كل الجزع مكروه إلا الجزع لقتل الحسين». واورد الشيخ كثير من المغالطات إلا أننا انتقينا ثلاث شبهات منها للرد عليها ودحضها. وهي كالتالي:
1- ادّعاءه أن الحسين (ع) لم يخرج للإصلاح.
2- قوله أنه لا يرى مبررا للبكاء على الحسين (ع) لأن الحسين في الجنّة.
3- أنّ التعلق العاطفي بالمقدسات ليس هو الأساس
أما قوله أن الحسين (ع) «لم يخرج الى كربلاء ليصلح لأنه يعلم ان الاصلاح انعدمت وسائله الممكنة حتى القتال لن يؤدي الى النصر…» فالرّد يأتي عليه بدون عناء من خطبة الامام الحسين (ع) نفسه عندما همّ بالخروج الى كربلاء. وهي خطبة مروية في كتب التاريخ السنّية والشيعية. يقول فيها الإمام: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراَ ولا مفسداً ولا ظالما ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي…». فما ندري اين ذهبت عقلانية الشيخ وفطنته؟! يقول الحسين (ع) انّه خرج للاصلاح ويقول الشيخ انّه لم يخرج للاصلاح! أهو ادرى بما في نفس الحسين، أم انّ كلام الحسين يحمتل التأويل؟! ولعمري ما أشدّ ما تخبّط في هذه المسألة؛ إذ بعد ان نفى أن يكون الحسين خرج للاصلاح، عاد ليقول: كان الحسين يعلم انّه سيستشهد «وعندها فقط ستستيقظ الأمة». فإن لم تكن يقظة الأمة اصلاحا فلعمري ما الإصلاح اذاً؟!
ويبدو ان الشيخ يختلف مع عامّة الشيعة في هذه المسألة. اذ أجمع علماء الشيعة على أن الحسين (ع) ليس فقط حاول أن يصلح الأمة بشهادته على أرض كربلاء، بل نجح في ذلك، مما حدى بذلك العالم أن يقول: «الإسلام محمدي الوجود، وحسيني البقاء». إذ بعد قتل الحسين مباشرة خفّض الأمويون من سقف مشروعهم. فبعدما كان هدفهم «محو ذكر آل محمد» ومسخ دين الإسلام، اكتفوا بعزل الأمة عن علم وفكر أهل البيت. وبشهادته توالت الثورات في كل مكان من العالم الاسلامي. بل ان امصارا انفصلت كليّا في حكمها عن الأمويين.
ثانيا ذكر الشيخ أن الحسين (ع) لم ينتصر ولم ينشد النصر أصلا! وهذا خلاف لما ذهب اليه الإمام زين العابدين (ع) عندما سأله يزيد: «يا علي من انتصر، أنا أم أبوك؟» فأجاب الإمام: «عندما يرفع الآذان تعرف من انتصر» وعندما قال المؤذن «أشهد أن محمداً رسول الله» قال زين العابدين عليه السلام: «يا يزيد! محمد هذا، جدّي أم جدّك». أجل إن الحسين (ع) انتصر إذ ما زال ذكر محمد وآله قائما وما ذكرُ آل أمية إلا لعنة تتبعهم. فالنصر عند العقلاء لمن يبلغ أهدافه والانهزام لمن يفشل في بلوغ اهدافه. فيزيد كان هدفه محو ذكر آل محمد، والحسين كان هدفه ديمومة ذكر آل محمد وفضح تضليل آل سفيان وهو ما حدث فعلا. وإنّه لمذهل حقاً على خرّيج النجف كما يدّعي أن تغيب عنه هذه الحقيقة التي لم تفت حتى المهاتما غاندي الذي يدين بالبوذية، عندما قال: «تعلّمت من الحسين أن اكون مظلوما فانتصر». ولكن ما نقول فالعلم ليس كالماء، فكم من وارد لمناهله لم ينل منه شيئا مذكورا.
والآن نأتي الى قول الشيخ: «أنا لا أرى مبررا للبكاء على الإمام الحسين ولا على غير الإمام الحسين من الذين هم الآن في روضة من رياض الجنّة» وهذا مشابه لقول الوهابية التي تحرّم البكاء على الميت. ونقول للشيخ أن الحسين (ع) في الجنة مما لا خلاف فيه، ولكنك أنت وانا لم ننلها بعد، والله يريد أن يبتليك وباقي الناس بالحسين (ع). ماذا أنت صانع عند ذكر مصرع البراءة والطهر على أيدي الظلم واللؤم؟ فإن بقيت غير مكثرت يكون ذلك دليلا على سقم الايمان. وإن فرحت واحتفلت كما يفعل في بعض البلدان يكون مصيرك الى الهاوية الا أن تتدارك نفسك. وان حزنت وبكيت على من بكت عليه الملائكة تفز بالثواب والاجر.
والشيخ يصوّر لنا البكاء وكأنه حالة اختيارية. وكأن الإنسان يتحكم في الوقت الذي يذرف فيه الدموع ويوقفها متى شاء. إن البكاء حالة تفاعل النفس مع عواطف جيّاشة تغلب على الإنسان. بل ان أحدنا عندما يغلب عليه البكاء، عادة ما يريد أن يستتر عن عيون الخلق. ولا نعرف ماذا يريد منّا الشيخ أن نفعل عندما نسمع مصيبة الحسين (ع)؟! كيف يريدنا أن نسمع بما جرى على الحسين وأهل بيت النبوة ولا ننفعل أو أن نحبس دموعنا؟! أو ليس المؤمن سريع العبرة؟! أو لم يبكي النبي يعقوب (ع) على يوسف حتى ابيّضت عيناه من الحزن فهو كظيم. أو لعلّه ينصحنا أن لا نذكر مصيبة الحسين ويتلاشى ذكره مع الوقت؟! ولكن هيهات له ذلك! تلك قمم طلبها حكام يملكون قناطير الذهب صرفوها لمحو ذكر عاشوراء ولم ينجحوا.
أما قوله عن حديث الفضل في البكاء على الحسين(ع): «عندي هذا الحديث الذي نتداوله نحن الشيعة ليس صحيحا. أولا لأن الحديث يحثّ على التباكي اي تصنّع العاطفة أي أنّه يعلّم المسلمين عدم الصدق» فهو ينمّ عن تجرأ على علم الحديث لا تجده الا عند الجاهل بهذا العلم. كان لرجل يدّعي مقامه إن أراد تحقيق حديث ما أن يستعمل الأدوات المشروعة في علم الحديث كالتواتر وعلم الرجال وغيره. لا أن يعرض الحديث على عقله، فإن قبله، صحّحه وإلا رفضه. فعقله ليس ميزانا للأمة! فقد يكون عقله واهيا في مقابل عقول الآخرين. فحتى كُمّل العقول من الأنبياء احتاجوا في بعض المواضع الى من يرشدهم للأولى. اذ قال الله في محكم كتابه «وفهّمناها سليمان» عندما حكم سليمان (ع) في قضية الغنم فأرشده داوود (ع) الى حكم أفضل. ولو أن كل عالم استعمل عقله ميزانا لتصحيح الأحاديث لغلب الهوى ولم يبق حديث واحد لا يقدح فيه. إذ كيف للعقل على سبيل المثال أن يميّز بين ما هو سفاح وما هو نكاح والفارق بينهما في الخارج -أي كما يبدوان للعقل المجرد- بضع كلمات؟! ان العقل الفردي يخضع للأهواء وهو ليس من مصادر التشريع كما جاء في القرآن: «ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله».
أمّا التباكي فلا يكون دائما معارضا للصدق. لأن التباكي في مسألة الحسين ليس هدفه خداع النّاس أو جلب منفعة دنويّة. بل الهدف منه ترويض النّفس حتى تنصهر في جوّ المأساة فترقّ وترهف فتنتقل إلى مرحلة البكاء العفوي. وهذا من قبيل ما أشار إليه أمير المؤمنين علي عليه السلام: «من لا يَتَحلَّم لا يَحلُم» فلكي يروّض الانسان نفسه على الحِلم يبدأ بإقناعها بحُسن الحِلم أولاً، ثم ينتقل الى ممارسة الحِلم ولو بتكلّف-وهذا هو التحَلُّم- ومع المداومة على ذلك يصبح الحِلم ملكة. ومثال آخر هو حثّ المؤمن على التخشُّع في الصلاة، ليصل المكلّف مع الوقت الى درجة الخشوع الفعلي.
لقد كررّ الشيخ العقل والعقلانية الى حد الإطناب، وأوردها في مقابل الإرتباط العاطفي بالحسين (ع) أو الدين عموما. واتهم المشايخ الذين يركزّون على الإرتباط العاطفي بالحسين (ع) أنهم يريدون تعزيز سيطرتهم على الجماهير فيسهل عليهم «توجيههم كيفما شاؤوا وتصبح الجماهير مطيّة لهم..». يفهم من كلام الشيخ أنّه يرى الإرتباط العقلي-النظري أعلى درجة من الإرتباط العاطفي-العملي. نجده مثلا يقول: «الإيمان بالمهدي ضرورة من ضروريات الدين ولكن الايمان قلبي وليس واجبا أن ينعكس على تصرفات المسلم». وهنا ينصحنا أن نخفي هذا الإيمان في داخلنا ولا يجب أن ينعكس على جوارحنا. كذلك يقول أن احياء ذكرى عاشوراء يجب أن تكون مناسبة للتفكّر في أهداف ثورة الحسين (ع)، ولا داعي لمجالس البكاء لأنّه لا مبرر لها، ففي نظر الشيخ هذه الحرارة التي في قلوب المؤمنين تجاه الإمام الحسين (ع) والتي تركت شعلة الإرتباط والولاء لسيد الشهداء مضيئة طيلة هذه القرون، فالشيخ لا يجد لها من مبرر بل يرى أن الارتباط يجب أن يكون مبنيا على أسس عقلية أي نقتصر على دراسة سيرة الحسين (ع). وهذا المنطق ينمّ عن جهل واضح بقتضى الفطرة الإنسانية وما جاء به الإسلام. إذ لو كان الإيمان محض اعتقادات وطقوس حكم العقل بصحّتها لما وقع الإختلاف ولما كانت الدنيا امتحان، ولأصبح الدّين علماً كباقي العلوم المتداولة بين البشر كالرياضيات والفيزياء. ولما كان هناك داعي للعقاب والثواب لإن الكل كان سيذعن لهذا الدّين. ولكنّ الأمر ليس كذلك، فصعوبة التدّين تكمن في الإيمان بالغيبيات: يجب على المكلف ان يؤمن أن الله يراه في كل تقلباته، وأن الملائكة حق، وأن الجنّة والنّار حق. وكلّها أمور لاحظّ للعقل للإحاطة بها!!
ثانيا، إن الله لا يريد من العبد أن يرتبط به عقليا فقط، بل عاطفيا، وهذا هو رأس المال. خذ مثلا أعمال أرسطو في الإلاهيات: قليل من البشر من وصل الى معرفة الله بالاعتماد على العقل وحده الى الدرجة التي وصل اليها أرسطو طاليس ولكن ذلك لم يجعله مثالا للمؤمنين. إذ أنّ مجهوده لن ينفعه الاّ أن يرفقه بعبادة لله على الوجه الذي ارتضاه الله وارسل به أنبياءه.
فذروة العبادة حبّ الله وأولياءه. إذ قال الله في محكم كتابه: «قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله» وفي آية أخرى: «يا ايها الذين امنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين». تلك آيتين واضحتين على مِحوريّة الحب الإلهي.
أما دور العقل فهو بمثابة الميزان الذي يحدّد للا نسان ايّة جهة جديرة بان يمنحها حبّه ويُسلّمها ناصيته. وما امتحان الله للخلق الا ان يثبتوا باعمالهم ان حبّهم لله أعلى من اي شيء. اذ يقول في كتابه الحكيم: «قل ان كان اباؤكم وابناؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بامره».
ولم يثن الله على إعمال العقل إلا من باب ان به يصل الانسان الى معرفة الطريق الى الله. فالعقل هو الوسيلة، اما الغاية فعشق الله وعشق كل ما يقرب الى الله. ولا شك ان الغاية اسمى من الوسيلة. ولا خلاف ان من وصفه الرسول (ص) بسفينة النجاة-وأعني الإمام الحسين (ع)- يقرّب الى الله. وحبّ الحسين (ع) من حبّ الله كما قال الرسول (ص): «أحبّ الله من احبّ حسينا». فالارتباط العاطفي بالحسين (ع) هو الاصل، اما تدارس سيرته العطرة انما هي الفرع. اذ بمعرفتها يسهل الانجذاب اليه. فان حصل الانجذاب العاطفي كما يصرح به الشيخ نفسه فقد بلغنا المرام، فاين الاشكال إذا؟!
ودليل آخر على قُصر العقل في مجال الاهتداء الى الفضيلة، ان اصحاب العقول الجبارة كآلبرت أينشتاين وغيره لم يهتدوا الى مكارم الآخلاق. أينشتاين مثلا كان امقت الناس خُلقا، وكان شديد الانانيّة الى درجة انّه طلّق مليفا، زوجته الأولى، العالمة الفزيائية التي ساعدته في بحوثه وخدمته حتى بلغ الشهرة. طلّقها لانّه عشق شابة في مقتبل العمر. وعندما رزقه الله ولداً متخلف عقليا اهمله ولم يسأل عنه طول حياته.
وكذلك التعلق بالمهدي، فعندما اقف وأنحني وأضع يدي على رأسي، إنّما أروّض نفسي للتسليم لسلطته وهو غائب. حتى إن شرّفني الله بطلعته البهيّة لا تحدثني نفسي بما يجعلني أغتر بالشهادات العالية او الرياسات التافهة، فأتخلّف عنه. أضف الى ذلك أن وقوفي تعبير عن ايماني بأنّه حيّ يرزق، لا كما يعتقد غيري من أنّه سيولد. فالتمايز شاسع بين الموقفين. فلا شك أنّه إن ظهر وتبيّن أنّه كان غائبا (كما نعتقد) سوف يرضى عمّن كان ينتظره وقد لا يرضى عمّن كان ينكر غيبته.
فالتدين هو الارتباط القلبي بالمعتقدات. وتقديس رموز الدين انّما هو لإثبات الإخلاص لهذه المعتقدات. وهذا التعلق العاطفي يجب أن ينعكس على الجوارح لكي ينمو ويدوم. أي يجب أن يسكن في منطقة الشعور الحارّ-الوجدان، لا أن يبقى في منطقة الشعور البارد ذ العقل. فدعوة الشيخ للمؤمنين بأن يخففّوا من التعلق العاطفي بالحسين وأن يركزوا على التعلق العقلي، هي دعوة لإخماد تلك الحرارة التي تحدث عنها رسول الله (ص): «إن للحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد ابداً». واي دليل اوضح على صحة هذا الحديث من تجسده على ارض الواقع؟!
أكاديمي وباحث مغربي مقيم فـي أميركا
Leave a Reply