وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
أكد الرئيس الإيراني حسن روحاني خلال افتتاحه عدداً من المشاريع في مجال البتروكيماويات، يوم الخميس الماضي، أن برنامج بلاده النووي، «سلمي بالكامل» ولا يهدف إلى إنتاج قنبلة نووية، لافتاً إلى أن إيران قادرة على تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 درجة إذا أرادت ذلك وبحركة واحدة، وأنه ليس أمام الولايات المتحدة والدول الأخرى الموقعة على اتفاق فيينا سوى العودة إلى القرار 2231 والالتزام الكامل ببنوده لتعود طهران في المقابل إلى التزاماتها في إطار الاتفاق.
فبعد حادثة استهداف منشأة نطنز النووية الإيرانية، وكرد فعل مباشر، اتخذت طهران قرارها برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60 درجة مهددة بالوصول إلى 90!
هذا الرد كان لافتاً وسريعاً، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن طهران ماضية في اعتماد سياسة المواجهة والتحدي التي كثيراً ما تحدث عنها المسؤولون الإيرانيون ولاسيما الرئيس روحاني وهي تسير وفقاً لمبدأ: الخطوة بالخطوة والتراجع بالتراجع!
إيران رفعت نسبة التخصيب وأعادت تشغيل مفاعلها المستهدف إلى العمل سريعاً، وربما تكون هي التي تقف وراء استهداف السفينة الإسرائيلية قرب ميناء الفجيرة في دولة الإمارات العربية، رغم أنها لم تتبنَّ الهجوم، الذي لا يخفى على أحد أنه كان رسالة قوية إلى تل أبيب ومن خلفها واشنطن، مفادها أنكم تلعبون بالنار، وأن طهران سترد الضربة بالضربة، مع الحفاظ دائماً على خيار الدبلوماسية الذي لم يتنكر له الإيرانيون يوماً.
وقد بدا كلام المرشد الإيراني السيد علي خامنئي منسجماً مع مواقف المسؤولين الإيرانيين بتأكيده على أن عودة إيران إلى الاتفاق النووي مشروطة برفع العقوبات كاملة، مرفقاً موقفه بتحذير للمسؤولين الإيرانيين بعدم إطالة أمد المفاوضات لأن ذلك يضر بمصالح الشعب الإيراني. هذا التحذير يحمل رسالة في غير اتجاه، موجهة إلى المجتمع الدولي المتحمس للعودة إلى الاتفاق وإلى الأميركيين تحديداً بأنهم لا يملكون رفاهية الوقت وأن إيران غير مرتهنة لحساباتهم، وأن المماطلة قد تستدرج لحظة «اللاعودة».
رسائل النار
بعد يومين من تعرض منشأة نطنز النووية الإيرانية لهجوم أدى إلى تعطل شبكة الكهرباء فيها، حمّلت طهران، إسرائيل مسؤولية الحادث، وتعرضت سفينة إسرائيلية لهجوم قرب ميناء الفجيرة عند سواحل الإمارات.
وقالت وسائل إعلام إسرائيلية إن الهجوم نفذته قوات إيرانية بصاروخ أُطلق من سفينة أو طائرة مسيرة صباح الثلاثاء الماضي، فيما لم يصدر تعليق رسمي على الحادث.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه هي سفينة الشحن الإسرائيلية الثالثة التي تتعرض لهجوم في أقل من شهرين والمتهم دائماً هو طهران.
وكانت طهران قد أعلنت قبل نحو أسبوع، تعرّض سفينتها «ساويز» التجارية لتفجير قرب سواحل جيبوتي، وهي سفينة دعم تابعة للقوات الخاصة الإيرانية المكلفة بمهام مرافقة السفن التجارية للحماية من القرصنة، حيث أكدت تقارير وقوف إسرائيل خلف التفجير.
كذلك تضررت سفينة حاويات إيرانية الشهر الماضي نتيجة هجوم في البحر الأبيض المتوسط، بعد أسبوعين من تعرض سفينة إسرائيلية لانفجار في خليج عمان.
التوتر في مياه الخليج لم يمنع استمرار انعقاد المفاوضات في فيينا، وقد اتُفق يوم الخميس الماضي في نهاية اجتماع اللجنة المشتركة للاتفاق النووي على استمرار المباحثات بين لجان الخبراء، التي ستقوم بدورها برفع توصياتها إلى اللجنة المشتركة لاتخاذ القرارات المناسبة. وكان مساعد وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقتشي قد ندد بالعملية التخريبية التي استهدفت منشأة نطنز وأسف لردود الفعل الأوروبية الضعيفة إزاء الحادث، وكان قد صرح قبل دخوله الاجتماع بأنه «إذا لم تسِرْ الاجتماعات بوتيرة بنّاءة فإننا لن نواصل المباحثات».
الخطوة الإيرانية الحالية بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة لا تخرج عن الإطار الذي لطالما اعتمدته طهران منذ خروج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي، فهي ومنذ ذلك الوقت بدأت تتحلل تدريجياً من التزاماتها دون الخروج من الاتفاق. وهي تندرج أيضاً في سياق سياسة الردع الإيرانية في مواجهة سياسة الضغوط القصوى التي تعتمدها ضدها واشنطن وحلفاؤها، لكن طهران في الوقت نفسه تتمسك بالمسار الدبلوماسي، وها هي تشارك بفعالية في اجتماعات فيينا.
هذه الاجتماعات التي تسعى تل أبيب إلى إفشالها بشتى الطرق، وهي تعبر عن ذلك صراحة من خلال الضغوط السياسية الكبيرة التي تمارسها على إدارة بايدن، وما العراك البحري والاستفزازات المتكررة التي تقوم بها إسرائيل سوى محاولات حثيثة لجرّ إيران إلى مواجهة عسكرية تخرجها من الإطار السياسي والدبلوماسي، الذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى إحياء الاتفاق النووي، إلى إطار عسكري قد يفجّر المنطقة برمتها، ويأخذها في اتجاه تصعيدي لا أحد يمكنه التكهن بنهايته.
ثمة من يرى في السلوك العدواني الإسرائيلي المتمادي تجاه إيران في الآونة الأخيرة إحراجاً لواشنطن التي تسعى بكل قوتها إلى العودة إلى الاتفاق النووي، وما المماطلة في أمد المفاوضات سوى ذر للرماد في العيون كي لا تظهر بمظهر المستميت لتلك العودة أمام العالم، فتهتز صوررتها كقوة عظمى لا يُشق لها غبار، فيما يذهب آخرون إلى القول إن ثمة ضوءاً أخضر من واشنطن لحليفتها تل أبيب للقيام بتلك الاستفزازات، وإلا لما تجرأت إسرائيل على القيام بها لأنها تعي تماماً أن ما تفعله قد يخرج عن السيطرة في لحظة من اللحظات، ويأخذ الأمور إلى مواجهة شاملة لا يمكنها خوضها بمفردها بمعزل عن واشنطن. علماً بأن الأميركيين سارعوا إلى التبرؤ من الهجوم على منشأة نطنز. وقد بدت واضحة، الخيبة الإسرائيلية على مختلف المستويات من سياسية وأمنية وعسكرية.
عراقيل إسرائيلية
صمت مطبق يسود الساحة الإسرائيلية وسط مخاوف من أن يجر بنيامين نتيناهو المأزوم سياسياً، بلاده إلى مواجهة لا تحمد عقباها، في حال تدهورت الأمور نحو ما هو أخطر من الرسائل غير المباشرة. فالانطباع السائد اليوم هو أن نتنياهو يغامر بشنّه تلك العمليات في البحر الأحمر والخليج، وأن حساباته إن أخطأت، قد تذهب بالمنطقة إلى مواجهة مفتوحة.
إذ يرى صقور إسرائيل أن وقف أنشطة إيران النووية لن يكون إلا عبر طريقتين: الأولى هي بالعودة إلى الاتفاق النووي، أما الثانية فهي بشن حرب ومواجهة شاملة ضدها، وهذا ما لا تستطيع إسرائيل القيام به بمفردها بمعزل عن الولايات المتحدة التي تغرد بعيداً عن هذا الطرح، وهي لا تبدو في وارد الإقدام على أي نوع من المواجهة المباشرة مع إيران، بل توجه كل مساعيها في سبيل العودة إلى الاتفاق النووي بما يحفظ لها ماء الوجه.
ومن الواضح حالياً أن إسرائيل ستواصل مساعيها لعرقلة مسار المفاوضات والوساطة الأوروبية بين إيران والولايات المتحدة. ولكن هل ستنجح في ذلك؟
بالنسبة إلى مسؤولي الاتحاد الأوروبي فإنه بالرغم مما صدر من بيانات طُلب فيها من إيران التوقف عن الاستفزاز والعودة عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة، هناك قناعة لديهم بأن إسرائيل تحاول إفشال مساعي العودة إلى الاتفاق، مستندة إلى قوة اللوبي اليهودي داخل الاتحاد الأوروبي ومؤسساته.
موقف واشنطن
موقف إيران القوي يتأتى من رؤية المسؤولين فيها أن العقوبات الأميركية قد بلغت ذروتها ولا يمكن «اختراع» المزيد منها في حين أن لدى طهران الكثير من وسائل الضغط التي لم تستخدم بعد، مثل رفع نسبة التخصيب إلى 90 بالمئة وكل ذلك ضمن الاتفاق النووي وتحت سقفه.
وثمة حديث داخل أروقة السياسة الأميركية حول انعدام الخيارات لدى إدارة بايدن، وأنها ستعود إلى الاتفاق النووي مرغمة بعد أن استنفدت كل ما لديها من ضغوط وعقوبات، باستثناء إطلاق يد حليفتها إسرائيل لاستهداف شخصيات إيرانية أو منشآت ومواقع نووية. لكن هذا السلوك سيف ذو حدين، فهو سيتيح لإيران فرصة إضافية التفلت من قيود الاتفاق دون الخروج منه، ما يستلزم بالضرورة المضي قدماً في التفاوض معها عاجلاً أم آجلاً، فيما هناك وجهة نظر مغايرة في الداخل الأميركي تعتبر أن التفاوض نفسه هو وسيلة ضغط على إيران، وبالتالي يجب الاستمرار به، لتقييد طموحات طهران النووية.
صحيح أن واشنطن تهمها امتدادات إيران الخارجية والصاروخية، لكن أكثر ما يهمها أولاً وأخيراً هو نشاطها النووي، فهو يدخل في صميم القلق الأميركي، لأنه يهدد الدور العالمي لها، فلا يمكن أن تتقبل دولة مثل الولايات المتحدة امتلاك دولة معادية لها كإيران قدرات نووية. هذا هو القلق الحقيقي والخطر الأساسي بالنسبة إلى واشنطن.
السياسة التي انتهجتها الإدارة الأميركية السابقة، يرى بايدن أنها عادت عليه ببعض المكاسب، لكنه في الوقت عينه يعلم جيداً أنها أساءت إلى أميركا وأحرجتها في غالبية الأحيان، ومع ذلك يتمسك بايدن بتلك المكاسب ويساوم عليها، معتقداً في مكان ما، أن بإمكانه استخدامها لمتابعة الضغط على طهران، طهران التي تمرّست في الالتفاف على كل أنواع العقوبات التي اتُخذت بحقها، حتى كادت أن تفرغها من محتواها وجدواها.
طرح إيران بجدية فكرة تخصيب اليورانيوم حتى 90 درجة أثار هلع المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة، في وقت تعيش فيه الجبهات الأخرى لـ«محور المقاومة» الذي تتزعمه إيران، ربيع أيامها: فمن اليمن الذي يسطّر كل يوم انتصارات عسكرية ويسجل المزيد من التقدم الميداني ويدك العمق السعودي بنحو شبه يومي، إلى سوريا التي تتعافى من أزمتها تدريجياً بعد عشرية النار التي أشعلها الغرب وبعض الدول الخليجية على أرضها، إلى العراق الذي تنتعش فيه قوى المقاومة الساعية إلى إخراج القوات الأميركية من أرض الرافدين، من دون إغفال ملامح الاتفاق الفلسطيني التي تؤسس لوحدة الشعب في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
ملفات ساخنة وأوراق متعددة تفرض شد حبال بين الخصمين اللدودين، لكن قراءة عميقة للمشهد، تثبت بما لا يقبل الشك أن زمن الأحادية القطبية والاستفراد بالشعوب واغتصاب حقوقها من خلال الضغط عليها بلقمة عيشها لتركيعها قد ولّى إلى غير رجعة.
Leave a Reply