أما وقد شطرت القضية الفلسطينية إلى نصفين، وملأت شظاياها شواطيء غزة وهضاب الضفة وصولا إلى أكناف بيت المقدس، لم يعد يجدي حينئذ تحميل أميركا وإسرائيل وزر ما جرى وما سوف يجري للفلسطينيين وهو كثير، فها هو وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد إيهود باراك يعدّ ثلاث فرق عسكرية للإنقضاض على غزة وتركيعها، بل وسحق المقاومة فيها في غضون عدة أيام، دونما يجلب ذلك عليه وعلى دولته سبّة أو شتيمة حتى من معظم الفلسطينيين والعرب، اللهم إلا من تنديد من هنا وإستنكار من هناك، فما فعلته حماس في غزة انكى مما فعلته فتح الإسلام في مخيم نهر البارد، كلا الفعلين مستهجن ومرفوض ومقيت، جعل الجماهير من المحيط إلى الخليج، تكفر بالمقاومة والعروبة والإسلام السياسي المتشدد، وكأن كل من يحمل هكذا شعارات إنما ينفخ في قربة مقطوعة.لا أدري كيف لمنظمة مقاتلة كـ«حماس» لها كل هذا التاريخ المشرّف، وهي التي قدمّت أبرز قادتها شهداء على مذبح قضية مقدسة وشريفة، أن تلطّخ يديها بدماء الأخوة ورفاق النضال، من أجل سلطة زائفة ومناصب خائبة، كان يكفيها شرفا وعزاً أن تظل حركة مقاومة وتحرّر يحسب لها الأعداء والأصدقاء ألف حساب، أما وقد انزلقت إلى الصغائر، فعليها أن توفر لشعبها في غزة والقطاع الخبز والدواء والكهرباء وحتى الماء، فا هي شركة الوقود الإسرائيلية أوقفت ضخ النفط إلى المدينة، وغدا أو بعد غد ستحذو حذوها شركة الكهرباء والمياه، وربما يصار إلى إغلاق المعابر الإسرائيلية التي تنقل من خلالها المواد الغذائية والدوائية، فتصبح غزة غير آمنة من خوف أو جوع.المرحلة الراهنة والمقبلة على الفلسطينيين جد قاسية، وحركة حماس على مفترق طرق، إما أن تتراجع عما أقدمت عليه وتذعن للمشيئة الفلسطينية والعربية والدولية، وذلك يعني تخلّيها عن مجمل شعاراتها وعقائدها وأدواتها النضالية، وإما أن تنقل المعارك إلى نابلس ورام الله وبيت لحم والخليل وبقية مدن الضفة ومخيماتها وتكون معركة مفتوحة، تثبت فيها وجودها من عدمه، لكن حربا كهذه إن حصلت (لا قدّر الله) سوف تكون مختلفة عن سابقتها، ستكون ممتدة ودموية وفاصلة، وستشارك فيها شئنا أم أبينا إسرائيل وأميركا ودول عربية، هذه جميعها يؤذي مصالحها الحيوية قيام «إمارة إسلامية» على تخومها، أشبه ما تكون بدولة طالبان.لكن الفلسطينيين شعب لا يضام، ولا يمكن لقدراته ومواهبه أن تعجز عن إجتراح الحلول، فليس كل الفلسطينيين من أمثال هؤلاء المقنعّين الذين نشهدهم على شاشات التلفزة، ولا من أمثال أمراء الحرب الواقفين خلفهم، فهناك المفكرون والساسة المحنّكون وأصحاب الاقلام النظيفة والنوايا الحسنة والحريصون على وحدة القضية الفلسطينية أرضا وشعبا، هؤلاء لن يفرطوا بالقضية، ولن يوهن عزيمتهم ما يصنعه «الولدان»، فالمسألة أرقى من أن يعصف بها مجموعة متسلقين على حبال سلطة ذائبة ومناصب ذاهبة، القضية مسكونة في قلوب عشرة ملايين فلسطيني ومئات الملايين مثلهم عربا ومسلمين. فيا أيتها الطبقة السياسية في الأرض المحتلة، ويا أصحاب الدكاكين المخابراتية والأمنية، أنتم ذاهبون ومأجورون وأصبحتم بأفعالكم هذه منبوذين، أرحلوا عن رقاب الفلسطينيين، فهؤلاء لهم رب يحميهم
Leave a Reply