وليد مرمر
مر أسبوعان ولما تهدأ بعد، الارتدادات التي تركتها تصريحاتكم عن الإسلام الذي «يعيش أزمة في كل مكان بالعالم»، والتي أسهبتم فيها الشرح كيف أن على «فرنسا التصدي لأزمة الإنفصال الشعوري لدى المسلمين وذلك عندما أعلنتم عن تفاصيل مشروع قانون ضد ما سميتموه «الانفصال الشعوري» والذي يهدف إلى «مواجهة التطرف الديني وحماية قيم الجمهورية الفرنسية». ويؤكد مشروعكم المطروح كما تفضلتم، ضرورة فصل الكنيسة عن الدولة الذي يمثل عماد العلمانية الفرنسية، وفرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية والمساجد الخاضعة للتدخل الخارجي.
ثم كشفتم عن سر من أسرار الأمن القومي الفرنسي عندما أعلنتم «أن السلطات تكشف مراراً عن مدارس، تتم فيها إقامة صلوات بشكل سري خلال اليوم الدراسي وتعتمر فيها الموظفات الحجاب» ولفتم النظر إلى «أن المدارس يجب أن تعلم مواطنين وليس مؤمنين».
كلا مسيو ماكرون!
كل ما نفثتموه في خطاب الكراهية كان بهتاناً ما عدا حقيقة واحدة: وهي أن المسلمين يعانون من حالة «انفصال شعوري».
إنه انفصال شعوري ينسى أو يتناسى القاتل والمجرم والسفاح ويسالمه ويهادنه بل ويمدحه ويطري عليه. ألم تر إلى غالبية المسلمين كيف يتباهون بقيم الثورة الفرنسية وبتعاليم العلمانية التي تتشدقون بها ليل نهار، فيما ينسون أو يتناسون المآسي والويلات والجرائم التي تسبب بها احتلالكم لأوطانهم بعد انهيار الأمبراطورية العثمانية؟
انظر كيف يتناسى المسلمون «المنفصلون شعورياً» حملاتكم الصليبية الإرهابية الحاقدة على الشرق، والجرائم التي ارتكبتها بحق مسلمي الشرق ومسيحييه سواء! فأنت لو ذكرت إمبراطوركم المجرم «نابليون» أمام المسلمين لوصفوه بأنه قائد عظيم متجاهلين حملته الحاقدة على مصر وبلاد الشام ونهبه لتراثنا ومكتباتنا وبطشه بالمصريين قتلاً وحرقاً وسبياً للنساء سيما عبر أحد قائدي حملته المدعو «كليبر».
لقد وعد نابليونكم اليهود بدولة في فلسطين ودعاهم إلى نصرته قبل ١٥٠ سنة من قيام دولتهم الحالية. ولكن حصون عكا كانت له بالمرصاد فرجع ذليلاً مهزوماً بعدما عاث في أرض الشرق فساداً وقتلاً وتدميراً.
نعم مسيو «سيغموند» ماكرون..
إن المسلمين مصابون بانفصام شعوري لأنهم يتناسون كل جرائمكم التاريخية، وينسون المليون ونصف المليون شهيد جزائري، وينسون تقسيمكم لسوريا الطبيعية و«وهبكم» –بالإتفاق مع الإنكليز– فلسطين لليهود.
فيا نزيل الإليزيه، نحن لسنا بحاجة لعلمانيتك الحاقدة على كل ما له صلة بالدين. ولتنعم بعلمانيتك التي تعاني من أشد أعراض الإسلاموفوبيا، ودع لنا إسلامنا «المأزوم»!
علمانيتك تسببت بمقتل مئات الآلاف من الأبرياء عقب الثورة الفرنسية التي تتباهون بقيمها! إن هذه الثورة التي أرست مبادئ علمانيتكم تسببت بفظائع يندى لها الجبين حيث يذكر المؤرخون من «مآثرها» أنها كانت أول إبادة جماعية في العصر الحديث (وذلك حسب المؤرخين فرانك شالك وكورت جوناثون، وأسماها المؤرخ بيير شاونو أول إبادة جماعية فكرية)، وذلك حينما ثارت مدينة فيندي عام ١٧٩٣ على اضطهاد «الثورة» لكل ما يمت بصلة لقيم الكنيسة، وأبيد على إثرها ١٥٠ ألفاً على أيدي ثوار نهضتكم وذلك لكي تكون «فيندي» عبرة لغيرها من المدن ولمنع أية انتفاضة أخرى.
لقد كتب فرانسوا جوزيف ويسترمان إلى الحكومة حينئذ في وثيقة تاريخية، تصم علمانيتك بالعار للأبد: «لم يعد هناك فيندي .. وفقاً للأوامر التي أعطيتمونا إياها، تم سحق الأطفال تحت أقدام الخيول، وتم ذبح النساء اللواتي، على الأقل بالنسبة لهؤلاء، لن يلدن المزيد من قطاع الطرق. ليس لدي سجين يوبخني… لقد أبدت كل شيء»!
وبالمقارنة، فتح محمد رسول الله، مكة بعد أن ناصبه عتاتها العداء لأكثر من عشرين سنة، فكان شعاره في الفتح: «من دخل بيته فهو آمن». أي من لم يخرج لقتاله فهو آمن بغض النظر عن تاريخه العدائي للإسلام ولرسوله!
ولئلا يدخل، قلبَ الرسول، الكبرُ أو الغرور، إذا نظر إلى الوجوه التي كادته البغضاء والعداء لعقدين من الزمن، طأطأ رأسه عند دخوله مكة حتى كادت تلامس ظهر دابته تخشعاً وتذللاً وخضوعا لله وتذليلاً للنفس عن الحمية. ويقول المحدثون أن رأسه الشريف كادت تلامس واسطة الرحل من شدة الانحناء!
رسول الله لم يطأ أعداءه بحوافر الخيل ولم يبقر بطون النساء ويقتل الأطفال كدأب «ثواركم في فيندي» بل إنه نظر إليهم نظرة من «أُرسل رحمة للعالمين» معلناً «العفو العام» عنهم بقوله: «اذهبوا فانتم الطلقاء»!
فيا مسيو ماكرون، دع لنا إسلامنا واهنأ بعلمانيتك التي تسببت بقتل عشرات الآلاف من الفرنسيين عقب انسحاب الألمان من فرنسا.
فلقد قتل على الظنة كل من كانت له صلة من بعيد أو قريب بالنازيين من خلال محاكمات ميدانية أو إعدامات من دون محاكمات مباشرة بعد انسحاب النازيين.
بموازاة ذلك، سطّر «إسلامنا» أروع مآثر الإنسانية عندما تحرر الجنوب اللبناني عام 2000، من دون سقوط نقطة دم واحدة فيما كان العملاء الذين اقترفوا أبشع أنواع الجرائم بين أظهر الأهالي والمقاومين. إنها حقاً لمأثرة لن يفقهها أمثالك ذوو التاريخ المفعم بالظلم والإجرام!
لقد انتشر إسلامنا مسيو ماكرون من مكة إلى المغرب، وشرقاً حتى تخوم الصين، بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة. بلاد واسعة دخلت الإسلام دون أن يطأها جندي واحد، كماليزيا وإندونيسيا وغيرها.
لكن، ربما يقول قائل إن هذا كان تاريخاً أسود عفا عليه الزمن، أما الآن فإن قيم «الحرية والمساواة والأخوة» تحكم سياساتكم الداخلية والخارجية.
إن هذا أبعد ما يكون عن الصواب! فخارجياً ما فتئت فرنسا تعبث بأمن واستقرار العديد من البلدان في أفريقيا وآسيا بدءاً بليبيا التي كان لها فيه حصة الأسد في نشر الفوضى ونهب الثروات، مروراً بسوريا التي ساندت فيها المسلحين والإرهابيين، وصولاً إلى اليمن التي تشترك فيها برفد العدوان السعودي–الإماراتي بكل أنواع الدعم العسكري واللوجستي.
أما داخليا فإن فرنسا تعد من أكثر بلدان أوروبا عداءا لقيم الإسلام، وتعتبر الإسلاموفوبيا فيها استراتيجية تمارسها السلطة بطريقة ممنهجة. فرغم وجود ٦ ملايين فرنسي مسلم فإن القانون يحرم المسلمات من أدنى حقوقهن المدنية وهي اعتمار غطاء الرأس (الحجاب) في المدارس ووسائل المواصلات العامة. بل والأدهى من ذلك قيام العديد من البلديات بمنع ارتداء «البوركيني» وهو لباس سباحة مصمم خصيصاً للمسلمات، وذلك كله بحجة حماية مبادئ العلمانية المزعومة.
لذا فلا تطلب يا مسيو ماكرون من المسلمين أن يضحوا بقيم الإسلام وأن يستبدلوها بقيم علمانيتك التي تعاني من تعقيدات ومشاكل تعصف بفرنسا واقتصادها وبنيتها الاجتماعية. وهذا كان واضحاً في استطلاع رأي نشره المعهد الفرنسي للرأي العام حول سؤال شباب فرنسيين مسلمين «هل تفضل تعاليم الدين الإسلامي على مبادئ الجمهورية الفرنسية» حيث أجابت النسبة الساحقة بـ«نعم».
لقد سئم المسلمون الفرنسيون النفاق الذي تتبعه الحكومات الفرنسية تجاه الإسلام والسياسات التي تشجع الإسلاموفوبيا كمنع الحجاب، وتغض النظر عن منشورات «شارلي أيبدو» التافهة بحجة الحفاظ على الحريات. ومؤخراً، رأى المسلمون الفرنسيون بأم العين ما تعرضت له رئيسة اتحاد الطلبة في جامعة السوربون الفرنسية «البيضاء» المحجبة مريم بوجيتو، حيث غادر برلمانيون يمينيون قاعة البرلمان رفضا لوجودها في اجتماع حول كورونا وتأثيره على الشباب، حيث تعرضت مريم لانتقادات شديدة اللهجة من عدد من الوزراء والنواب على خلفية «حجابها»!
إسمح لي مسيو ماكرون أن أسألك: لو عادت بطلة فرنسا وقديستها الكاثوليكية «جان دارك»، فهل كنت ستمنعها من اعتمار غطاء الرأس لو استقلت الباص أو كنت ستمنعها من أداء صلواتها الكاثوليكية التي كانت مواظبة عليها لو ذهبت إلى المدرسة أو إلى إدارة رسمية؟
سأذكرك بقول لجان دارك رغم علمي أنه لن يحيي القلوب الميتة: «لئن تضحي بحياتك وتعيش دون إيمان فهذا مصير أكثر فظاعة من الموت»!
فيا مسيو ماكرون، دع لنا إسلامنا واهنأ بعلمانيتك… «سيل فو بليه»!
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply