تشهد الصحف المحلية بين الحين والآخر نشرات ومقالات تعكس مدى الاختلاف العميق بين أفراد الجالية والحساسية المفرطة لكل تصرف أو كلمة تصدر من الطرف الآخر المختلف عنهم في التوجه السياسي والانتماء الاجتماعي. وإذا كان ذلك يحدث في طبقة المثقفين والمتعلمين، المحسوبين في الجالية على أصحاب الرؤية والقيادة، فماذا نقول عن ناس العاديين، المستسلمين لأقدارهم في غربة وعذاب لا يعلم بها إلا الله. فما الداعي والدافع لتبادل قذائف الحوار كالرصاص بكل هذه العصبية والتشنج، فيما يشبه شجار شعراء القبائل البدوية، وها نحن نرى أحفادهم، بعد مئات السنين، قد نقلوا خلافهم السياسي والفكري -والطائفي بالطبع- إلى بلاد المهجر، وأن العديد منهم يستخدم منبر الإعلام في التشنيع والتقريع والتحذير من الآخرين المختلفين معهم في الرأي والتوجه والانتماء الحزبي. والمضحك المبكي أن ذلك يتم تحت شعار حب الوطن، وكأن لبنان الوطن الصغير الجميل، لا يكفيه الحب المزيف المحلّي، المعبأ في براميل الاختلافات والتشنجات والخالي من كل تسامح وإخلاص.
إنسان ساذج مثلي، عندما يقرأ أو يسمع تلك المناكفات، يسأل: أين ثقافة الحوار لفتح طريق يهدف إلى السعي لاحتواء المخلصين من أبناء الجالية، أيا كان انتماؤهم الحزبي والمذهبي، ولماذا هدر الوقت بالوقوف عند صغائر الأمور، وخسران السمو في طاحونة دفع الإساءة بالإساءة واستسهال رد الشتيمة بمثلها؟ لا بأس بالقليل من التسامح عندما يخطئ البعض. الكبار فقط من يتسامحون ويبادرون بالخطوة الأولى لإذابة جليد الغرور من النفوس، لأنهم يملكون ضميراً حياً يلجم العصبية والأنانية في تلك النفوس.
في أثناء الحرب العالمية الثانية، وفيما كانت المعارك على أشدها بين الألمان والروس كان أحد الجنود الألمان يكنس الأرض أمام إحدى الثكنات. كان الوقت ليلاً والدنيا ظلاماً، فطاب له أن يدخن سيجارة. لم يكن معه ما يشعلها به. في تلك اللحظة مر رجل يلبس زياً عسكرياً كزيه ويمشي مستعجلاً. ناداه الجندي وقال له: اقترب أيها الرفيق وأشعل لي هذه السيجارة بسرعة. اقترب الرجل منه وأشعل له السيجارة، ومضى في سبيله دون أن يلتفت الجندي إليه ويشكره أو يعيره أدنى اهتمام. في هذه الأثناء، كان أحد ضباط الثكنة يراقب هذا المشهد من مكان مرتفع وغير بعيد، فما كاد الرجل ينصرف حتى هرع الضابط إلى الجندي الذي يكنس الأرض وهو فاغر فاه من الدهشة وقال له: هل تدري ماذا فعلت الآن؟ أجاب الجندي: لم أفعل شيئاً! فقال الضابط وهو يشير الى الرجل الذي انصرف: هل عرفت من هو “رفيقك” هذا الذي استدعيته إليك وأمرته بصوت عال أن يشعل لك السيجارة؟ قال الجندي: لا.. ولكن من عساه يكون غير جندي من رفاقنا في الثكنة؟!
أجاب الضابط: إنه الفوهرر! الفوهرر ذاته! عندها اعتدل الجندي وأدى بصورة آلية التحية الهتلرية حسب العادة الألمانية يومذاك. وقف الجندي مبغوتاً مبهوتاً نادماً على ما فعل لحظة نادى هتلر وأمره بأن يشعل له السيجارة دون أن يعيره أي اهتمام وحتى دون أن ينظر إليه، فامتثل سيد أوروبا يومذاك وقاهر الدول الصغرى والكبرى ومرعب العالم، امتثل للأمر وجاء وأشعل السيجارة بكامل البساطة والطاعة.
عندها قال الضابط للجندي: إنه لا يزال قريباً منا، فامضِ إليه بسرعة واعتذر منه، فركض الجندي وراء هتلر، حتى أدركه وحياه التحية الهتلرية ثم قال له: آسف يا سيدي الفوهرر. لقد كنت مهنمكاً بعملي في هذه الظلمة، فلم ألتفت إليك فأعرفك، إني آسف يا سيدي لما حصل. وأدى التحية من جديد.
عندها ابتسم هتلر وربت على كتف الجندي وطيب خاطره قائلا: لا داعي للاعتذار، فالذي حصل أمر طبيعي وعادي ويجب أن يحصل، ولكن احذر أن تفعل ذلك مع أومباشي أو شاويش أو باش شاويش، فقد يتناول مسدسه من على جنبه ويضربك بالرصاص فيرديك قتيلاً!
البعض يخطئ وآخرون يتسامحون، قليلاً من التسامح يا رفاق الأبجدية “وبلاها هالعصبية”.
Leave a Reply