لم يكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب يغادر السعودية، حتى ضاعت طبول الحرب التي قُرعت خلال قمة الرياض، في ضجيج الخلافات الخليجية، التي تفجرت فجأة، وعلى نحو غير مسبوق، على خط السعودية–الإمارات–قطر.
هكذا عاد الخليجيون إلى حجمهم الطبيعي، فهم يدركون جيداً، أن التصعيد مع إيران، سيقود في نهاية المطاف إلى حرب كبرى غير متكافئة، لن تستطيع ممالك ومشايخ النفط تحمّل أعبائها، ولا سيما أن الحروب الأصغر –نسبياً– التي خاضوها في اليمن، وفي سوريا، وفي لبنان، لم تكن تجارب مشجّعة على الإطلاق.
ولعلّ رد الفعل الإيراني البارد جداً، تجاه ما خرج عن قمة الرياض، من تهديدات، كان أبلغ دليل على أن أكثر ما يمكن أن يقوم به الخليجيون، هو مجرّد اجتماع احتفالي، برئيس مثل دونالد ترامب، يفتحون فيه خزائنهم، لتقديم الهدايا السخية لضيفهم، من العباءات المرصّعة بالذهب، إلى صفقات الأسلحة الضخمة، ظناً منهم أن ذلك سيكون كافياً لضمان الحماية الأميركية لسنوات قادمة، أو ربما يظنون أنهم قادرون على جرّ الولايات المتحدة إلى حرب مباشرة ضد طهران.
هكذا ببساطة، تكشّفت نتائج ما سمّي القمة الإسلامية–الأميركية، التي عاد منها الرئيس الأميركي بغنيمة ضخمة، لم يدفع ثمناً من أجلها سوى بعض التصريحات، التي لا تقدّم ولا تؤخر. وبذلك اشترى الخليجيون كلاماً من ترامب بمئات مليارات الدولارات، وهم يدركون أن كلام الاجتماعات تمحوه معطيات الميدان.
ولكن ما الرابط بين قمة الرياض وتفجّر الخلافات الخليجية؟
الهجوم على قطر بدلاً من إيران
تتعدد التكهنات تجاه ذلك، ولكن معظمها لا يخلو من بعض التفاصيل التي يمكن أن ترسم بمجملها المشهد الكامل لما يجري بين أنظمة الخليج.
يصف المحللون الخليجيون، الذين تكاثر ظهورهم على الفضائيات العربية، خلال الأيام الماضية، أن ما جرى كان وراءه ما وصفوه «خروج قطر عن الإجماع الخليجي»، بعد قمة الرياض. وإذا كان العنوان الإعلامي لهذا «الخروج» هو استمرار الإمارة النفطية في دعم المجموعات الإرهابية –«الإخوان المسلمين» تحديداً– فإن العنوان السياسي هو تحفّظ الدوحة على التصعيد مع إيران، وذلك لأسباب عدّة، قد يكون أبرزها إدراكاً واقعياً بأن فتح جبهة جديدة ضد إيران، في ظل الانتكاسات المتلاحقة التي تواجه الخليجيين، من اليمن إلى سوريا لن تكون ايجابية النتائج.
وعلى خط آخر، يرى بعض المراقبين، ولا سيما الغربيين منهم، أن الرياض وأبوظبي أصبحتا تشعران بثقة سمحت بتوجيه الانتقادات لقطر بفضل اشتداد الصداقة مع ترامب. وفي الواقع، فإن ترامب قدّم دعماً كاملاً للسعودية، بشكل خاص، وخلفها الإمارات، خلال قمة الرياض، وقال: «فلنعزل إيران»… ولعلّ ذلك بمثابة رسالة إلى الإمارات والسعودية اللتين شعرتا بالتشجيع وقالتا «فلنطلق كل ما لدينا على قطر».
وثمة وجهة نظر أخرى، تتقاطع مع السابقتين، وربما تكون أقرب إلى الواقع، لكونها تأخذ في الحسبان كافة الحيثيات الخليجية من جهة، والإقليمية والدولية من جهة أخرى، ومفادها أن السعودية تدرك جيداً أن لا قرار أميركياً بإشعال حرب شرق أوسطية، يصعب التكهن بنتائجها، وأن ما جرى خلال قمة الرياض، وبعدها، ليس سوى تصعيد كلامي، لتبرير عودة ترامب إلى الولايات المتحدة محملاً بمليارات الدولارات، وبالتالي فإنّ ثمة حاجة إلى افتعال أزمات أخرى للتغطية على العجز تجاه الجمهورية الإسلامية. وبذلك تقاطع هدف التغطية مع العجز، مع جهود متواصلة لتصفية الحسابات الخليجية، وهذا ما حدث بالفعل منذ ليل الثالث والعشرين من أيار.
في الواقع، ثمة تفاصيل في الأزمة الخليجية، يمكن أن تقدّم، وإن بشكل غير مباشر، دليلاً على صوابية التحليل الأخير، فتلك الأزمة المتجددة، بدأت عملياً في ميدان الإعلام، حين بثت قنوات تلفزيونية سعودية وإماراتية تصريحات نسبت إلى أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، خلال مراسم تخريج دفعة من المجندين، قال فيها إنه من غير الحكمة معاداة إيران ورفض تصعيد الخلاف معها، مستنكراً التصريحات المنسوبة إليه بشأن وضع «حزب الله» وحركة «حماس» على قائمة الإرهاب، باعتبارهما «حركتي مقاومة»، واتهم كلا من السعودية والإمارات والبحرين بالتحريض على قطر واتهامها برعاية الإرهاب.
وبالرغم من أن وكالة الأنباء القطرية أصدرت بياناً في وقت لاحق نفت فيه صحة التصريحات وقالت إن موقعها الإلكتروني تعرض للقرصنة، الإ ان وسائل الإعلام السعودية والإماراتية واصلت هجومها على قطر بسبب تلك التصريحات. ولعلّ ذلك يثير تساؤلات حول جدوى البناء على ما تسمّيه قطر «قرصنة الكترونية» لمنصاتها الإعلامية، لتفجير أزمة على هذا القدر من الخطورة، أو ربما يطرح علامات استفهام جدّية حول امكانية قيام جهة استخباراتية –سعودية أم إماراتية– بالاختراق الالكتروني أصلاً.
ومع ذلك، فلا يخفى أن لهجة الاعلام القطري تبدّلت كثيراً، قبيل قمة الرياض، وبعدها، حتى أن البعض راح يتندّر على الموقف القطري، قائلاً إن «الشيخ تميم بات في محور الممانعة». وترافق ذلك، مع شكوى قطر من أنها مستهدفة في «حملة ممنهجة ومغرضة» من الانتقادات من جانب أطراف غير معروفة في إطار التحضير لزيارة ترامب تزعم أن قطر تدعم جماعات متشددة في الشرق الأوسط، وهو أمر بقدر ما ينطبق على الإمارة النفطية، ينطبق أيضاً على الأنظمة الخليجية الأخرى، لا سيما السعودية، مصدّرة الفكر التكفيري وداعمته مادياً ومعنوياً.
ليست أول أزمة
المشهد الخليجي، وبقدر ما يبدو معقّداً في الظاهر، لا يمكن اختزاله سوى بمناكفات، ليست بالغريبة عن العلاقات بين ممالك النفط ومشايخه، ولعلّه يقترب في تفاصيله من الأزمة التي عصفت بالعلاقات القطرية–الخليجية في العام 2014، وأدت آنذاك إلى سحب سفراء السعودية والبحرين والإمارات من قطر لعدّة أشهر.
وكان سبب الخلاف حينها أن قطر خالفت التوجهات العامة لمجلس التعاون الخليجي، وخصوصاً حيال العلاقة مع جماعة «الإخوان المسلمين»، والقيادة المصرية الجديدة بعد عزل الرئيس محمد مرسي وتولي الرئيس عبدالفتاح السيسي مقاليد الحكم في مصر، علاوة على استقبال الدوحة لعدد من قيادات الإخوان المسلمين ورعايتها لنشاطهم الإعلامي.
وبعد خطوة سحب السفراء شهدت العلاقات بين الدول الخليجية حالة من التوتر تخللتها محاولات لمعالجة الموقف قادتها الكويت. واستمرت الوساطة حتى نهاية آب العام 2014، عندما عقد اجتماع لوزراء خارجية دول مجلس التعاون في مدينة جدة، لتخرج تصريحات إلى العلن حول إيجاد حلول للأزمة الموجودة وإمكانية لعودة سفراء الدول الثلاث إلى الدوحة، إلى أن نضجت الحلول بعد ثلاثة أشهر، عندما اجتمع قادة الخليج في قمتهم بالرياض ليتفقوا على عودة السفراء، في مقابل التزام قطر بالإجماع الخليجي.
اليوم، تعود الكويت لقيادة وساطة جديدة، ولكن تعقيدات المشهد الاقليمي والدولي، والذي تجري في ظله أشرس التراشقات عبر المنصات الإعلامية المختلفة –والتي تجاوزت البعد السياسي لتصل إلى نسب الشيخ تميم نفسه– تشي بأن الوساطة الكويتية قد لا تحقق أهدافها، في حل الخلافات، أو حتى تنفيس الاحتقان، قبل القمة الخليجية المرتقبة بعد أسابيع.
هذا الأمر تؤكده المصادر الكويتية، التي تشير إلى تمسّك السعودية بمطلب «التزام قطر السياسة العامة لمجلس التعاون»، والمقصود هنا، أن «تبتعد قطر عن علاقاتها المنفردة مع الولايات المتحدة وأوروبا» وأن «تقطع علاقاتها مع تركيا ومع تنظيم الإخوان المسلمين»، وأن تترجم ذلك بخطوات عملية، فيما تؤكد قطر، في المقابل، أنها لن تقبل ما تسميه «الوصاية السعودية» وبأنها لن تغير سياساتها الإقليمية، لا سيما في مصر وليبيا.
وفي ظل المسار التصاعدي للأزمة الخليجية، والتعثر التي تواجهه الوساطات الخليجية الأخرى، ثمة من يرجّح أن تتجاوز الأزمة الحالية سابقتها في جوانب عدّة، وأنها ستتخذ أبعاداً أخرى، لا تخلو من «ضرب تحت الحزام»، بما سيترك انعكاسات، تتجاوز مجلس التعاون الخليجي، وتمتد من اليمن والعراق وسوريا، مروراً بمصر وليبيا… وربما تصل إلى لبنان.
Leave a Reply