كان النفوذ الأميركي في الشرق الأدنى والأوسط يتقدم على السوفياتي ثم الروسي حالياً، لأن روسيا لم يكن لها منفذ على المياه الدافئة التي كانت تطمح وتسعى نحو الوصول إليها منذ زمن القياصرة، إلى أن تسنّى لها أن تكون لها قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس بعد توقيع معاهدة تعاون بين روسيا وسوريا في مطلع سبعينات القرن الماضي.
الدخول عبر الكنيسة
وأول دخول روسي إلى المنطقة، كان من لبنان، من خلال الكنيسة الأرثوذكسية في إنطاكية، حيث تقرر وفي عهد القيصر إيفان الرابع تقديم مساعدات كبيرة لهذه الكنيسة، وتخصيص مبالغ من الخزينة لتغطية احتياجات مسيحيي الشرق، حيث تمّ إنزال قوات بحرية ومعها مدفعية في عام 1773، عند نهاية الحرب الروسية–التركية في ميناء القديس جيورجيوس لمساندة الأهالي ضد الباشا، وبعد مرور شهرين استسلم الأتراك، وعلى أثر ذلك رفرفت «راية أندرييف»، وهي راية القوات البحرية الروسية فوق بيروت، وقد سُميت إحدى ساحات بيروت بـ«ساحة المدفعية» تكريماً للقوات الروسية، ولازالت التسمية قائمة حتى هذا التاريخ، إضافة إلى أن البحارة الروس الذين قتلوا في المعارك دفنوا في مقبرة «مار متر» في الأشرفية في بيروت، وقد افتتح الروس أول قنصلية لهم في العام 1839 وترأسها قسطنطين بازيلي وهو دبلوماسي مستشرق، وتبع ذلك نشاط روسي في المشرق العربي بافتتاح أكثر من 100 مدرسة ومعهدين للتربية ومدرسة مهنية ومستشفيات، مما عزّز الحضور الروسي، الذي إكتسب أهمية سياسية، مع دخول روسيا بالدول السبع لحماية الطوائف اللبنانية ومنها الأرثوذكس إثر معارك 1840–1860 بين الدروز والمسيحيين.
العبور السياسي
أما العبور السياسي للاتحاد السوفياتي إلى لبنان فبدأ مع إقامة علاقات دبلوماسية في العام 1943 مع الإعتراف باستقلال لبنان، والمساعدة على انسحاب القوات الفرنسية منه، وافتتحت أول سفارة سوفياتية عام 1956 في المبنى القديم الذي كانت تشغله البعثات الدينية الروسية.
كما زاد من الوجود السياسي السوفياتي، تأسيس الحزب الشيوعي بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 بقيادة لينين، حيث كان الحزب الشيوعي اللبناني والسوري واحداً في الدولتين الخاضعتين للإنتداب الفرنسي، مما عزّز من التمدد الشيوعي في المنطقة التي تأسست فيها أيضاً أحزاب شيوعية تدين بالماركسية–اللينينية، وكان ذلك منصة للاتحاد السوفياتي ليؤسس علاقات مع دول المنطقة، كمصر التي دخلها بعد العدوان الثلاثي الفرنسي–البريطاني–الإسرائيلي على قناة السويس عام 1956، كما أن قوة النفوذ السوفياتي نمت بدعم حركات تحرر عربية ومساندة ثورات وأحزاب وطنية وتقدمية، بعد «خطأ» تاريخي ارتكبه الاتحاد السوفياتي، وهو اعترافه بدولة إسرائيل في عام 1948 بعد اغتصاب فلسطين، مما كان له أثر سلبي على العلاقة العربية–السوفياتية ونشاط الأحزاب الشيوعية التي شهدت انقسامات، لكن التصحيح في السياسة السوفياتية من الصراع العربي–الإسرائيلي، كان بمساندة الاتحاد السوفياتي للمقاومة الفلسطينية، ودعم الأنظمة التقدمية في سوريا والعراق ومصر جمال عبدالناصر والجزائر واليمن، مما أعاد التوازن إلى الوضع الدولي ثم الإقليمي.
السوفيات في لبنان
واستفاد الاتحاد السوفياتي من الدعم الأميركي لإسرائيل وضمان أمنها وتزويدها بالسلاح والمال، ليكون هو على الضفة الأخرى، ليس معادياً للكيان الصهيوني، إنما ليس حليفاً له، إذ أثبت وجوده ودخل إلى المنطقة من بوابة فلسطين عبر فصائلها المقاومة، وكذلك عبر الأحزاب اليسارية والقوى الوطنية في لبنان، ففتح باب المساعدات والمنح التربوية والصحية، واستقبل منظمات لبنانية وفلسطينية وقام ضباط روس بتدريبهم كما بتسليحهم، وعرف لبنان الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي عبر اشتعال ساحته بالفتن والحروب، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، مع اندلاع الثورة الفلسطينية ضد الإحتلال الصهيوني في فلسطين.
وتعزّز الوجود السوفياتي من خلال الحركة الوطنية اللبنانية التي ترأسها كمال جنبلاط الذي فتح باب العلاقة الإيجابية مع السوفيات، واشترط على كل مرشح لرئاسة الجمهورية، أن يعزز التعاون اللبناني–السوفياتي ويمتحنه على هذا الأساس، إلى أن حصلت محاولة سوفياتية لخطف طائرة ميراج فرنسية بواسطة ضابط طيار في الجيش اللبناني هو محمود مطر الذي كشف العملية، وتوترت العلاقة اللبنانية–الروسية، مما أثر على انتخابات رئاسة الجمهورية، ففاز مرشح الوسط سليمان فرنجية بمواجهة مرشح «الشهابية» الياس سركيس الذي سقط، لارتباط تياره السياسي «النهج» بسياسة قريبة من السوفيات ومصر.
اللاعب الدولي–الإقليمي
بعد وصول فلاديمير بوتين إلى الرئاسة الروسية خلفاً لبوريس يلتسين الذي كان أول رئيس للجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قام رجل المخابرات الروسي القوي (خريج الـ كي.جي.بي)، بإعادة بلاده إلى الساحة الدولية–الإقليمية كلاعب أساسي، بعد عقود من تفرد أميركا في السياسة الدولية، وفرض أحادية النظام العالمي الجديد، فقرّر بوتين أن يواجه ويتقدّم في عقر نفوذ أميركا، لاسيما بعد ما سمي «ثورات عربية» التي هي صناعة أميركية، ولم يتأخر الوقت لينكشف دور «الإخوان المسلمين» والجماعات الإسلامية المتشددة في وقوفهم وراء ما سمي «حراك شعبي»، ليتحول إلى إرهاب وممارسة التكفير والقتل.
كان الدخول الروسي إلى سوريا، بعد اندلاع الأزمة فيها بنحو أربع سنوات، وفشل الحل السياسي لها، مع التنكر الأميركي لما صدر عن مؤتمر جنيف وكل المؤتمرات الأخرى، ليضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثقل روسيا السياسي والعسكري في سوريا، منذ العام 2015، بعد التقدم الذي أحرزته الجماعات الإرهابية المدعومة من أميركا وحلفائها، حيث انقلب ميزان القوى العسكري لصالح الجيش السوري وحلفائه، وبدأت نهاية الإرهاب في سوريا، التي تحررت نحو 95 بالمئة من أراضيها، وبشكل متسارع، ولم يبقَ سوى محافظة إدلب التي سيدخلها الجيش السوري بالحرب أو بالسلم، إذ باتت الكرة في ملعب تركيا، وعند انتهاء تحرير إدلب يكون الجيش السوري استعاد كامل الأرض السورية، وأعادها إلى كنف الدولة.
الوضع اللبناني
ومع تحقيق انتصارات للنظام في سوريا وحلفائه، فإن لبنان سيتأثّر بذلك، حيث يعتبره الروس الحديقة الخلفية لسوريا التي لهم فيها قاعدتان بحرية وجوية، إضافة إلى تواجد آلاف الجنود والشرطة العسكرية والخبراء، وأن روسيا لن تترك سوريا لأي طرف دولي أو إقليمي، وهي بالتفاهم مع قوى دولية، ستعمل على الحل السياسي في سوريا الذي بدأته منذ العام 2012 في مؤتمر جنيف الذي حضرته أميركا وروسيا، وصولاً إلى قمة هلسنكي الأخيرة التي جمعت الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، واتفقا خلالها على عودة النازحين السوريين إلى المناطق الآمنة، والاستمرار بالعمل للحل السياسي. ولقد استفاد لبنان من قمة هلسنكي، ليضع ملف النازحين على سكة الحل، حيث نصحت روسيا عبر موفدها الرئاسي إلى لبنان، بأن يكون الحل من خلال التواصل بين الدولتين أو الحكومتين اللبنانية والسورية، وهو ما يرفضه فريق ما يسمى «14 آذار وعلى رأسهم الرئيس سعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، و«القوات اللبنانية».
تغيّرت موسكو
لقد تغيّرت موسكو، ولم يعد لها حليف واحد في لبنان اسمه وليد جنبلاط الذي ارتمى في أحضان السياسة الأميركية، وباتت لروسيا علاقات داخل الطائفة الدرزية مع النائب طلال إرسلان والنائب السابق فيصل الداوود والوزير السابق وئام وهاب، وهي استقبلت تيمور جنبلاط الذي حمل رسالة اعتذار من والده وليد، على انتقاداته التي وجّهها إلى القيادة الروسية وخلافه معها على الوضع في سوريا، إذ قرّرت روسيا أن يكون استقبالها لإرسلان، رسالة لجنبلاط، أن المختارة ليست البوابة الوحيدة في لبنان التي يمر منها السفراء والمسؤولون الروس، وأن خلدة بوابة تأمن لها روسيا، ووقف ارسلان إلى جانب النظام السوري، ولم يحرّض الدروز في سوريا على الدولة السورية، وأنه بات حليفاً كما شخصيات درزية أخرى، وليس جنبلاط لوحده حليفاً وقد يبقى صديقاً لتاريخ العلاقة معه ومع والده كمال جنبلاط، لكنه غير موثوق من القيادة الروسية، إلى أن يبدّل موقفه كما يفعل دائماً، إذ أن أخطر ما طلبه من موسكو عبر نجله تيمور، تسليح دروز سوريا، واعتماد نموذج «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، وهو ما رفضته القيادة الروسية لأنها مع وحدة سوريا، وليست مع «الدويلات الطائفية والعرقية».
Leave a Reply