نبيل هيثم – «صدى الوطن»
الروسي لا يلدغ من الجحر مرتين. هذا ما يفسر موقف روسيا من الصراع فـي سوريا منذ بدء عسكرة الحراك الشعبي السلمي.
الرئيس السابق ورئيس الحكومة الحالي ديميتري ميدفـيديف كان واضحاً فـي ذلك منذ البداية، حين قال إن روسيا لن تُخدع مرّة ثانية فـي سوريا بعدما خُدعت فـي ليبيا.
انطلاقاً من هذه المقولة تحرّك الموقف الروسي خلال السنوات الاربع الماضية من عمر الأزمة السورية، واتخذ ابعاداً مختلفة، بدءاً برسم خطوط حمر ميدانية، عنوانها الساحل السوري ودمشق، وأخرى سياسية، تتعلق خصوصاً بعدم التخلي عن الرئيس بشار الاسد، مروراً بجعل سوريا فـي كفة واحدة مع أوكرانيا، ضمن الصراع المحتدم مع الغرب، وليس فـي كفتين، وصولاً الى اتخاذ القرار بالتدخل العسكري، رغم أنف الاميركيين.
ويبدو أن التحرك الروسي الاخير باتجاه سوريا، والذي ترافق مع طرح مقاربة مختلفة لموضوع مكافحة الارهاب، قد بدأ يتخذ منحى جديداً، بعد فترة طويلة من الغموض البناء، الذي جاء فـي سياق خطة ذكية من الرئيس فلاديمير بوتين الذي أتى الى الكرملين قبل نحو 15 عاماً بعد سنوات طويلة قضاها فـي عالم الاستخبارات.
وبرغم أن الدعم الروسي لسوريا لم يتوقف يوماً، سواء على المستوى العسكري (حيث ظل توريد شحنات الاسلحة قائماً برغم الحظر الدولي)، أو على المستوى السياسي (حيث استخدمت موسكو حق النقض أكثر من مرة ضد قرارات التدخل فـي مجلس الامن، وأحبطت قبل عامين خطة أميركية لتوجيه ضربة عسكرية لسوريا على خلفـية الملف الكيميائي)، أو حتى على المستوى المالي (حيث ظل خط الاعتماد المصرفـي مفتوحاً برغم العقوبات التي فرضها الغربيون على روسيا بسبب الازمة فـي أوكرانيا)، إلا ان ما يجري منذ أيام هو نقلة نوعية فـي هذا الدعم، تسعى القيادة الروسية من خلاله الى تحقيق أكثر من هدف.
وعلى المستوى السياسي، فإنّ المواقف الروسية الأخيرة، والمتزامنة مع التحرك العسكري، تأتي لتحصين الموقع الرئاسي السوري من أي صفقات محتملة. ولذلك فإن اصرار الرئيس فلاديمير بوتين على أن لا حل فـي سوريا من دون الرئيس بشار الأسد، يعني أن الكرملين عاقد العزم على عدم السماح للغرب والمعارضة السورية بأن يحصلوا فـي السياسة ما لم يستطيعوا الحصول عليه بالحرب. وهو أمر ينسحب على تأكيد القيادة الروسية، على اكثر من مستوى، انه لا يمكن هزيمة الارهاب «الداعشي»، أو غيره، من دون مشاركة فعالة من الجيش العربي السوري، وهي نقطة حساسة جداً بالنسبة الى الاميركيين فـي ظل اخفاق التحالف الدولي عن تحقيق أي من أهدافه ضد التكفـيريين.
الاهم من كل ذلك، أن روسيا وضعت اطاراً واضحاً لتحركها الاخير فـي سوريا، وتركت سقف الدعم للرئيس الأسد من دون حدود، وهو ما عبرت عنه المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا حين قالت ان توريد معدات روسية الى سوريا «يتطابق بشكل كامل مع القانون الدولي»، وان «موسكو لم تخف أبداً علاقاتها العسكرية الفنية مع سوريا»، وانها «تزود سوريا منذ زمن بعيد بالأسلحة والمعدات الحربية، وتقوم بذلك مع مراعاة العقود الموقعة»، وتأكيدها انه «إذا ظهرت هناك حاجة لاتخاذ إجراءات إضافـية من جانبنا من أجل تكثيف مكافحة الإرهاب، فنحن سندرس هذه المسائل بلا شك، وسنعتمد فـي ذلك حصرياً على القانون الدولي والقوانين الروسية».
ويُفهم من حديث زاخاروفا، ومن التقارير الميدانية الواردة من سوريا، أن الروس قد بدأوا التقدم نحو مبادرة نوعية فـي العلاقات التسليحية، للمرة الأولى منذ بدء الحرب على سوريا.
وفـي هذا الاطار، فإنّ فرقاً من الخبراء الروس قامت باستطلاع مطارات حربية سورية، قبل أسابيع، وهي تعمل على توسيع مدارج بعضها، لا سيما فـي الشمال السوري. وبحسب مصادر اعلامية غربية وروسية فإن السوريين طلبوا من الروس تزويدهم بأكثر من 20 طوافة روسية مقاتلة، من طراز «مي 28»، لتطوير عملياته وقدرته على المناورة، ومدرعات مدولبة من طراز «ب ت ر 82»، التي بدأ بعض منها يظهر على جبهات القتال، الى جانب راجمات «سميرتش بي أم 30» ذات القدرات النارية العالية، بالاضافة الى معدات لتطوير المدرعات والدشم فـي مواجهة صواريخ «تاو» الأميركية التي حصل عليها المسلحون مؤخراً.
ومن بين الأسلحة التي يجري الحديث عنها كذلك، صواريخ «اسكندر» البعيدة المدى، وطائرات من دون طيار، فـيما تجري مفاوضات بشأن مقاتلات «ميغ 31».
ولا يبدو ان التحرك الروسي سيقتصر على هذا الجانب التسليحي، فالقيادة الروسية وجهت رسالة عسكرية أكثر مباشرة، حيث أعلن الوزير سيرغي لافروف أن روسيا تجري تدريبات عسكرية فـي البحر المتوسط تستمر لفترة، وبما يتماشى مع القانون الدولي، ليؤكد بذلك تقارير اعلامية افادت بتحرك مجموعة من خمس سفن للبحرية الروسية، مزودة بصواريخ موجهة، للقيام بمناورات فـي المياه الإقليمية السورية، ويحتمل أن يشمل ذلك إطلاق صواريخ، والتدرب على صد هجوم من الجو، والدفاع عن الساحل، وهو ما يعني إطلاق نيران المدفعية وتجربة أنظمة الدفاع الجوي القصيرة المدى.
ويبدو واضحاً ان التدخل الروسي بدأ يثير قلقاً اميركياً متصاعداً، خصوصاً ما من شأنه أن يعيد رسم خريطة التحالفات الاستراتيجية فـي الشرق الأوسط. واذا كان الاميركيون ما زالوا يستخدمون اللغة الديبلوماسية فـي التحذير من هذا التحول الاستراتيجي، فإن اسرائيل كانت الأكثر تعبيراً عن القلق الاميركي.
ويمكن تلمس الموقف الاسرائيلي -أو الاميركي الفعلي- من الحديث الذي أدلى به مصدر أمني إسرائيلي إلى كل مواقع الصحف الاسرائيلية، والذي اضاف الى الخطر الروسي خطراً آخر يتمثل فـي نزول الحرس الثوري الإيراني الى ميادين القتال، تزامناً مع التدخل الروسي، وبأن تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية تشير الى ان التطورات الأخيرة توحي بنشوء محور روسي-إيراني لإسناد الأسد. وبحسب المصدر الإسرائيلي جرى إرسال مئات الإيرانيين إلى سوريا، خصوصا للمناطق التي خسر الجيش السوري سيطرته فـيها، وطلب فـيها مساعدة «حزب الله».
وفـي إيجاز للصحافـيين فـي تل أبيب، قال وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون إن مصلحة الروس فـي الاصطفاف إلى جانب الأسد تتمثل أساساً فـي حماية النظام السوري ومحاربة «داعش»، وانه يتعذر جداً معرفة كيف سيؤثر التواجد الروسي على ميزان القوى بين المتصارعين، وهل سيرجح كفة النظام السوري.
ومع ذلك، فإن ما يقوله الاسرائيليون والاميركيون لا يعكس كامل مخاوفهم، إذا ما أضيف اليه التحرك المصري الاخير باتجاه روسيا.
وكان واضحاً، من الاجواء المرافقة للزيارة الرابعة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي لموسكو مؤخراً، ان ثمة تقاطعاً فـي المصالح بين الروس والمصريين ازاء سوريا، يصل الى حد التطابق.
ويتبدى ذلك بداية فـي ان روسيا لا تسعى عملياً الى مقارعة واشنطن فـي الشرق الأوسط، واستخدام هذه المنطقة ساحة للحروب بالوكالة، لكن مع ذلك أنها تسعى، من خلال التدخل فـي سوريا، الى استعادة سمعتها الدولية ومقاسمة واشنطن نفوذها الاستراتيجي.
واما مصر فلا تخفـي موقفها القائل بأن اي حل سياسي فـي سوريا لا بد ان يضمن وحدة الاراضي السورية والحفاظ على الدولة السورية، وهو موقف مبدئي ينطلق من فكرة ان وحدة سوريا تمثل أولوية ثابتة من أولويات الأمن القومي المصري، على العكس من الدول الإقليمية المنخرطة فـي الصراع السوري الآن.
وهذا الامر، يفتح الباب أمام تنسيق مصري-روسي بشأن الأزمة فـي سوريا، ويؤمن مساندة متبادلة: مصر بالغطاء العربي والمقبولية النسبية لدى أطراف الصراع السوري، وروسيا بالنفوذ الدولي وبعلاقاتها المتميّزة مع النظام فـي دمشق. واذا سلمنا جدلاً بأن روسيا هي «الحليف المشترك» بين ايران ومصر، يمكن المجادلة بأن ما يثير قلق الاميركيين هو بروز حلف مصري-روسي-إيراني قادر على تغيير الاوضاع، ليس فـي سوريا وحدها، وانما فـي الشرق الاوسط ككل.
العلاقات الروسية-السورية
كان الاتحاد السوفـياتي من أولى الدول التي اعترفت باستقلال سوريا وأقامت علاقات ديبلوماسية معها فـي العام 1944. وتعززت العلاقات السورية الروسية بشكل كبير لترتقي إلى مستوى التحالف الاستراتيجي فـي وصول الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى سدة الحكم فـي العام 1970.
وبعد طرد الرئيس المصري انور السادات، السوفـيات من مصر اضطر الكرملين للبحث عن بدائل أخرى فـي الشرق الأوسط، وكان كل من العراق وسوريا الذين يحكمهما حزب البعث العربي الاشتراكي أفضل تلك البدائل، فتدفق السلاح إلى هذين البلدين، وبالإضافة إلى الدعم العسكري قدمت القيادة السوفـياتية دعماً سياسياً مشهوداً لسوريا فـي المحافل الدولية وساهم الاتحاد السوفـياتي كذلك فـي بناء البنية التحتية للاقتصاد السوري لاسيما فـي فروعه الاستراتيجية كالطاقة والتعدين والري.. الخ.
وطوال هذه الفترة، كان الاتحاد السوفـياتي يقدم لسوريا الدعم السياسي والعسكري فـي مواجهتها لإسرائيل تحديا للدعم الكبير الذي كانت تتلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة.
وفـي العام 1963 اقيم مركز الدعم المادي التقني للاسطول البحري السوفـياتي فـي ميناء طرطوس السوري. وكان الاتحاد السوفـياتي يورد إلى سوريا أسلحة وغيرها من السلع بكميات كبيرة مما أدى إلى تراكم المديونية الكبيرة (فـي عام 1992 كان دين سوريا لروسيا يتجاوز مبلغ 13 مليار دولار).
وفـي العام 2005، وقعت بين البلدين اتفاقية شطب 73 فـي المئة من الديون السورية أخذاً بالحسبان أن المبلغ المتبقي وقدره 2.11 مليار دولار سيتم صرفه لتنفـيذ العقود الروسية. وتم إبرام هذه الاتفاقية فـي حزيران العام 2008.
ولا بد من الاشارة الى أن روسيا، ومنذ أيام الاتحاد السوفـياتي، قدمت الدعم العسكري الكبير لسوريا، لكن هذا الدعم توقف فـي التسعينيات فـي عهدي الرئيسين ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين، ليستأنف مجدداً فـي عهد الرئيس فلاديمير بوتين، وكان بإعادة افتتاح القاعدة البحرية الروسية فـي ميناء طرطوس وعقد الصفقات العسكرية مع سوريا منها تقديم خبراء عسكريين وأسلحة وتجديد عتاد الجيش السوري من أسلحة حديثة.
Leave a Reply