من سوريا إلى اليمن .. اختبارات حاسمة لتوازنات جديدة في الشرق الأوسط
حدثان بارزان طبعا المشهد الإقليمي –وعلى نطاق أوسع المشهد الدولي– خلال الأيام القليلة الماضية، محورهما روسيا، التي نقلت اندفاعتها في الشرق الأوسط إلى مستويات أكثر تقدّماً، عبر اختبارين، أحدهما عسكري مع تركيا، والآخر سياسي وجهته السعودية.
في الاختبار الأول، باتت الكرة في ملعب رجب طيب أردوغان لكسب ثقة الجانب الروسي، عبر جبهة إدلب، التي تواصل القوات التركية حشد قواتها، لضمّها إلى اتفاقية مناطق خفض التصعيد من خلال حملة عسكرية غير مسبوقة تجري بغطاء روسي واضح على المستويين السياسي والعسكري.
تلك العمليات العسكرية التي بدأت فعلاً، ويرجح أن تبلغ ذروتها خلال الأيام القليلة المقبلة، ربما تشكل نتائجها المعيار الذي سيعتمده الكرملين في تقييم علاقته مع النظام في تركيا، في اختبار للثقة، من شأنه أن يحسم الكثير من التساؤلات المشككة لدى صناع السياسات الروسية بشأن خيارات رجب طيب أردوغان على المستوى الاستراتيجي.
ولا شك في أن الجانب الروسي يبني توقعاته، انطلاقاً من التطوّر الكبير الذي شهدته العلاقات بين موسكو وأنقرة، منذ الحركة الانقلابية الفاشلة على رجب طيب أردوغان في تموز العام 2016 والتي مثلت نقطة تحوّل كبرى، بالنظر إلى الشبهات بشأن الدور الأميركي الداعم أو الحامي للإنقلابيين المرتبطين بالداعية الإسلامي فتح الله غولين.
الانعطافة التركية
على هذا الأساس، كانت الانعطافة الكبرى في الموقف التركي، حين نزل رجب طيب أردوغان عن شجرة غروره، وتقدّم باعتذاره الشهير للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن حادثة إسقاط طائرة «السوخوي» فوق أجواء الحدود السورية–التركية، وهو ما أفسح المجال أمام رد إيجابي روسي تمثل في رفع العقوبات المؤلمة التي تمّ فرضها على تركيا واستئناف التعاون في المجالات الحيوية، ولا سيما مشاريع خطوط أنابيب النفط والمفاعل النووي الذي ترغب أنقرة في امتلاكه.
وعلى نحو لا يقل أهمية، بالنظر إلى طابعه الاستراتيجي، جاء الاتفاق بين روسيا وتركيا على توريد منظومة «أس–400» للدفاعات الجوية، في تطوّر بالغ الأهمية، يجمع الخبراء على أن أخطر ما فيه يتمثل في كونه سلاحاً استراتيجياً قد يعني إدخاله إلى تركيا تحوّلاً في التموضع الدولي لهذا البلد، وباعتباره مؤشراً على اقتراب روسيا من تحقيق هدف كبير يتمثل في سحب تركيا من حلف شمال الأطلسي باتجاه «حلف شانغهاي».
الشك الدائم
ولكن الثابت في السياسة الروسية، كما يتبدّى منذ بداية عهد الرئيس فلاديمير بوتين، أن الشك يبقى سيّد الموقف بالنسبة إلى طرف مثل تركيا، خصوصاً أن لرجب طيب أردوغان تاريخاً طويلاً من النكث بالعهود، أو المناورة السياسية، التي تتمظهر اليوم، من خلال مواقف ملتبسة إزاء العلاقة مع الغرب أو حتى مع روسيا نفسها، وآخر تجلّياتها ما قاله خلال زيارته الأخيرة لأوكرانيا، بأن تركيا لن تعترف بضم شبه جزيرة القرم لروسيا، في حين كان وزير خارجيته مولود جاووش أوغلو يلمّح إلى شروط تركية إزاء صفقة «أس – 400» نفسها!
وعلى خط موازٍ، ومتشابه إلى حد كبير، تأتي الانفتاحة الأخيرة بين روسيا والسعودية، الحليف التاريخي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتي عكستها زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو، وما رافقها من اتفاقات اقتصادية وعسكرية، أبرزها على الإطلاق صفقات تسليح، محورها أيضاً منظومة «أس – 400».
ولعلّ الدلالات السياسية لمنظومة الدفاع الجوي «أس– 400» في هذا الحالة، تبدو أكثر خطورة، فالسعودية تتجاوز تركيا حين يتعلق الأمر بالصراع الدولي بين روسيا والولايات المتحدة، فالبرغم من كونها ليست عضواً في الحلف الأطلسي، إلا أنها في حقيقة الأمر، أهم من عضو في هذا الحلف الغربي، وبالتالي يمكن القول إنّ صفقات التسلح الاستراتيجية التي أبرمت خلال زيارة الملك سلمان لموسكو لا تقتصر مفاعليها على كسر الاحتكار الأميركي الطويل على صادرات السلاح إلى منطقة الخليج العربي، بل تعني أن روسيا تحاول أيضاً سحب الدول الخليجية من المعسكر الأميركي باتجاه حلف استراتيجي جديد بات يعرف في الأدبيات الروسية بتسمية «منطقة البحار الأربعة»، التي تشمل دولاً، ذوات موقع استراتيجي، مطلّة على البحر المتوسط (سوريا)، والبحر الأسود (تركيا) وبحر قزوين (إيران) وبحر العرب (الخليج)، وهي رقعة جيوسياسية مهمة دارت عليها تاريخياً كل الصراعات الدولية، وتعد اليوم شرياناً للاقتصاد العالمي.
اختبار إدلب
انطلاقاً مما سبق، يمكن فهم الاختبارات الروسية التي تقترب من أن تكون مغامرة، والتي لن تحسمها سوى النتائج المرتقبة في الميادين الملتهبة على امتداد الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا واليمن.
وفي الميدان السوري، يفترض أن تشكل العملية التركية في إدلب، اختباراً جدّياً للخيارات التركية على المستوى العسكري، وللخيارات السعودية على المستوى السياسي. وقد بات معروفاً أن المقاربة الروسية في سوريا باتت تعتمد على عنصرين متوازيين، الأول في الميدان، حيث يجري العمل على تنفيذ تفاهمات استانا بشأن مناطق خفض التصعيد من جهة، وفي الدبلوماسية، حيث تؤكد موسكو أن التفاهمات الميدانية تشكل عنصراً رئيسياً في إنجاح مفاوضات التسوية السياسية سواء في استانا أو في جنيف.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الاختبارات الجارية حالياً، تشمل بطبيعة الحال تحديد شكل التعاون التركي في إدلب والموقف السعودي من مفاوضات الحل النهائي في سوريا.
وأما الميدان اليمني فيشكل بدوره اختباراً للنوايا السعودية، خصوصاً أن هذه الجبهة المشتعلة تشكل عنواناً للصراع الإقليمي بين السعودية وإيران، الشريك الاستراتيجي لروسيا في الشرق الأوسط. وثمة اعتقاد راسخ لدى الكثير من المراقبين سواء في روسيا أو خارجها، أن صفقات التسليح الروسية للسعودية قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تخفيف التوترات بين هذين الجارين اللدودين، على عكس ما هي الحال بالنسبة إلى صفقات التسليح الأميركية لدول الخليج.
وينطلق المراقبون في تحليلهم هذا، من واقع أن دخول السعودية كشريك إقليمي لروسيا –حتى وإن حافظت على علاقتها المتذبذبة مع الولايات المتحدة– من شأنه أن يشكل عاملاً لخفض التصعيد مع إيران، وذلك من خلال محفّزين، الأول سياسي ويتمثل في إمكانية قيام موسكو بدور الوسيط بين الرياض وطهران، بالنظر إلى كونها «الشريك المشترك». والثاني، يتمثل في صفقات التسليح نفسها وخصوصاً منظومة «أس – 400» المتطورة التي يمكن أن تحفظ ماء وجه حكام السعودية، لما توفره من غطاء دفاعي لما يعتبرونه تهديداً باليستياً إيرانياً.
بهذا المعنى، يمكن لروسيا أن تحقق ما يُسمى بتوازن الردع في الشرق الأوسط على المستوى السياسي والانخراط في جهود للتقارب أو على الأقل نزع صواعق التفجير على المستوى الإقليمي. وقد تبدّى ذلك بشكل واضح في التصريحات الأخيرة التي أطلقها أكثر من مسؤول رسمي روسي، باستعداد موسكو للقيام بوساطات على خط طهران–الرياض، مع تلميحات بأنّ اليمن قد يكون اختباراً أولياً لمثل هذه الوساطة.
وبرغم ما سبق، فإن التحركات الروسية ما زالت تسير بحذر، وستواصل السير على هذا الشكل لفترة ليست بالقليلة، فلموسكو تجارب ليست مشجعة مع تركيا والسعودية بشكل خاص، ولعلّ صنّاع السياسات الروس ينطلقون في هذا الحضر من إرهاصات الماضي (سوريا بالنسبة إلى تركيا، وافغانستان بالنسبة إلى السعودية)، وتقلّبات الحاضر، خصوصاً أن هاتين الدولتين بالذات مهووستان بلعبة التوازنات التي تجعلهما مستعدتين للمناورة والابتزاز بغرض تحقيق أقصى المكاسب، خصوصاً أن المنافس الأميركي ما زال يمتلك الكثير من أوراق اللعبة، سواء في التصعيد ضد إيران و«حزب الله»، أو من خلال القنبلة الكردية في العراق وسوريا.
انطلاقاً من ذلك، على سبيل المثال، لا يمكن فهم التغريدة الغامضة لوزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان إزاء «حزب الله»، سوى في كونها جس نبض للجانب الأميركي، لتحديد وجهته الإقليمية، ولا سيما فيما يتعلق بإيران، في ظل التباينات الواضحة داخل الإدارة الاميركية بشأن مصير الاتفاق النووي، ما يشي بطبيعة الحال برغبة سعودية في حسم الخيار بين العودة إلى الاتكال على العدوانية الأميركية… أو اللجوء إلى السلام الإقليمي الروسي!
Leave a Reply