قبل 188 عاماً، وقعت حادثة خطيرة، لا تزال ذكراها محفوظة في الكرملين حتى اليوم: الجماهير الإيرانية الغاضبة، اقتحمت مقر البعثة الدبلوماسية الروسية في طهران، وقتلت الدبلوماسي الشهير ألكسندر غريبوييدوف على خلفية «تهمة أخلاقية»، ما دفع بالشاه حينها إلى إيفاد ابنه إلى القيصر نيقولاي الأول، ومعه فدية، هي عبارة عن حجر كريم من الماس، حجمه 90 قيراطاً، ووزنه 18 غراماً، وطوله 3 سنتمترات، ولا يزال محفوظاً في متحف الكرملين.
كان ذلك مؤشراً على علاقات متدهورة، في الحقبتين الشاهنشاهية والقيصرية، بين جارين لدودين، لطالما فرّقهما التعارض التام في المصالح الاستراتيجية، والصراع على النفوذ في آسيا الوسطى وبحر قزوين.
وبالرغم من أن العلاقات بين إيران وروسيا، قد شهدت تحسناً بعد انتصار ثورة البلشفيين، قبل مئة عام، بعدما أعاد الاتحاد السوفياتي إلى إيران، أراضي اقتطعتها منها الإمبراطورية الروسية، فإن إيران عادت لتتحول إلى ميدان للتنافس الدولي، بين السوفيات والأتراك والبريطانيين، وبينهم وبين الأميركيين في وقت لاحق.
ومع انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979، فُتحت الأبواب مجدداً أمام مرحلة جديدة دافئة في العلاقات الثنائية، إلا أن حوادث عدّة أتت لتقوّضها، ولعلّ أخطرها حادثة اختطاف الدبلوماسيين السوفيات في لبنان والتي دفعت بالاستخبارات الروسية إلى توجيه تهديد صريح للإيرانيين عبر المرجع الشيعي الراحل السيد محمد حسين فضل الله في حال لم يطلق سراحهم.
تحوّل تاريخي
ليست تلك المقدمة التاريخية مجرّدة عن الواقع اليوم، فالتقارب الذي تشهده العلاقات الروسية–الإيرانية، حالياً، والتي عكستها الزيارة الأخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران تشي بأن الطرفين يبحران اليوم باتجاه شراكة سياسية–اقتصادية تصل إلى حد التحالف الاستراتيجي، مبحرين في وجهة معاكسة لرياح التاريخ القديم والحديث.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن هذا المسار غير المسبوق في العلاقات الثنائية منعزل عن التطورات الكبرى التي بدأت ترخي بظلالها على الجانبين، منذ زوال الحاجز الايديولوجي في مطلع التسعينات بين الامبراطورية الشيوعية والجمهورية الإسلامية، فكان أن شهد التعاون الروسي–الإيراني تطورات بالغة الأهمية، بلغت ذروتها في أواسط التسعينيات مع توقيع اتفاقية مشتركة لبناء مفاعل بوشهر، ومن ثم التوصل إلى تفاهمات بشأن إدارة موارد بحر قزوين، ناهيك عن الدور الروسي الفعال في تعطيل المحاولات العدوانية الأميركية ضد إيران، في سياق أزمة البرنامج النووي الطويلة الأمد.
وبالرغم مما سبق، فإن العلاقات الإيرانية–الروسية لم تكن لتبلغ هذا المستوى من التحوّل إلا بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران، بعد تسوية فيينا النووية، حيث جرى الحديث عن شراكة استراتيجية على المستوى الاقتصادي، قبل أن تكرس التطورات السياسية شراكة تصل إلى مستوى التحالف السياسي والعسكري، لا سيما بعدما فتحت إيران قاعدة همدان للقاذفات الاستراتيجية الروسية المشاركة في الحرب على الإرهاب في سوريا.
والواقع أن روسيا وإيران وجدتا في الحرب السورية الأرض المشتركة المناسبة لإرساء قاعدة من التعاون السياسي والعسكري، مع إمكانية نقل هذا التعاون إلى حالة شراكة استراتيجية، يمكن الاستفادة منها من أجل مقارعة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط ككل.
حلف سياسي اقتصادي
تأتي زيارة بوتين إلى طهران الأسبوع الماضي، لتؤكد على أن العلاقة التشاركية تسير في المسار الطبيعي، في خضم التحوّلات الشاملة على مستوى منطقة الشرق الأوسط والملفات المشتركة بين البلدين، لا سيما فيما يتعلق الملف السوري والملف النووي الإيراني وتعزيز التعاون الاقتصادي بالنسبة إلى قوتين فاعلتين على المسرح الجيوسياسي، تتعرّضان بشكل متوازٍ لإجراءات عدائية أميركية تتمثل في المحاولات المتكررة لتشديد العقوبات الاقتصادية.
هذا التقارب، كان يمكن تلمسه بشكل واضح في التصريحات المتبادلة خلال الزيارة الأخيرة، والتي تجاوزت العبارات الدبلوماسية التقليدية، فإنّ ما شهدته الزيارة واللقاءات التي جمعت بوتين بمرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني من مواقف سياسية واتفاقات اقتصادية تبدو أكثر تعبيراً عن مستوى التقارب الثنائي.
فقد أعلنت شركة المحروقات الروسية العملاقة «روسنفط» (شبه عامة) عن توقيع «خريطة طريق» مع شركة النفط الإيرانية العامة، لتنفيذ مشاريع مشتركة في مجال انتاج النفط والغاز في إيران، في حين كانت الزيارة المتزامنة للرئيس الأذري الهام علييف فرصة لمزيد من التعاون في منطقة بحر قزوين من خلال اتفاق استراتيجي لبناء سكك حديد بطول 172 كيلومتراً بين رشت في إيران وأستارا في أذربيجان، ومشاريع تنقيب مشتركة عن آبار نفط وغاز في قزوين، بالإضافة إلى التعاون الثقافي وفي مجال الشؤون الإنسانية.
وفي الواقع فإن الشراكة الروسية–الإيرانية تكتسب طابعاً أكثر أهمية إذا ما نظرت إلى بعدها المتجاوز للعلاقات الثنائية، إذ من شأنها زيادة النفوذ الروسي في الخليج العربي ومضيق هرمز، على نحو غير مسبوق، علاوة على تهديد خطوط المواصلات البحرية في منطقة خضعت لعقود عديدة للسيطرة الأميركية من دون منازع، وهو ما يدفع وما يزيد من هواجس القيادة السعودية التي قررت مؤخراً القيام بتحركات غير مسبوقة في سياستها الخارجية، تبدّت في الزيارة التاريخية التي قام بها الملك سلمان لموسكو خلال الشهر الماضي.
قلق إسرائيلي
لا شك في أن الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، تنظران بعين القلق إلى تلك التحولات الإقليمية التي تتخذ من العلاقات الروسية–الإيرانية بوابة لحلف عابر للحدود الإقليمية بين محور المقاومة من طهران إلى بيروت، وبين روسيا، وقد يشمل في مرحلة لاحقة، أطرافاً لم يكن أحد ليتصوّر خروجها من العباءة الأميركية، والمقصود بذلك تركيا والسعودية وصولاً إلى باكستان والهند والصين.
ربما في هذا السياق، أتت الغارة التي شنتها المقاتلات الحربية الإسرائيلية على سوريا، تزامناً مع الزيارة البوتينية، في رسالة جوية واضحة، تعبّر بشكل كبير عن المأزق الإسرائيلي.
والواقع أن إسرائيل تتحسب منذ فترة طويلة للتقارب الحاصل على خط موسكو–طهران، وهو ما يرصده تقرير إستراتيجي صدر قبل عامين عن مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، بشأن «الدور الإسرائيلي المتخيل للحرب في سوريا».
يؤكد واضع الدراسة، العقيد احتياط إفرايام قام، الذي يشغل منصب نائب رئيس معهد أبحاث الأمن القومي، أن العلاقات الإيرانية–الروسية شهدت تحسناً كبيراً وملحوظاً منذ العام 2012، تجلى بتبادل الزيارات بين كبار مسؤولي الدولتين وفي نشاط عسكري مشترك في سوريا إلى جانب وضع خطط مشتركة لتوسيع نطاق العلاقات الثنائية في قضايا تزويد إيران بالسلاح.
مع ذلك يعتبر قام، أن وجود هذا الكمّ من المصالح المشتركة بين الطرفين ليس كافياً للتأصيل لحلف بين إيران وروسيا، لا سيما بفعل الاختلاف بين أهداف الدولتين، والعلاقات المشبعة بالخلافات والشك بفعل اختلاف الاعتبارات الإقليمية والدولية لكل من الدولتين.
ولكنّ التطورات اللاحقة في العلاقات الروسية–الإيرانية، تأتي اليوم لتناقض الوجهة السابقة، على نحو يثير إرباك إسرائيل، ويقود إلى سيناريوهات مقلقة، تحدث عنها التقرير الإسرائيلي من خلال فرضية أن «للعلاقات المتطورة بين إيران وروسيا دلالات وتداعيات سلبية على إسرائيل، مثل استعداد موسكو لتزويد طهران بسلاح متطور سيصل قسم منه في نهاية المطاف إلى حزب الله»، علاوة على تحذيره من أن «السعي الإيراني–السوري إلى إضعاف النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط سيخدم في نهاية المطاف المكانة الإقليمية لإيران».
Leave a Reply