قمة القلق الأميركي!
«حدث تاريخي»… بهذه العبارة وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بحضور نظيره الروسي فلاديمير بوتين توقيع الاتفاق الثنائي بين الجانبين، على بناء أول محطة نووية في تركيا، في اليوم الأول من حراك سياسي غير مسبوق، توّج بعقد الرئيسين قمة ثلاثية مع نظيرهما الإيراني حسن روحاني، كان الملف السوري في صلبها.
تطوّر الموقف التركي يبدو مثيراً للانتباه، خصوصاً إذا ما قورن بتلك اللهجة العالية التي اعتمدها رجب طيب أردوغان منذ بداية الأزمة السورية وتحديداً قبل نحو عامين، حين أقدم على مغامرة عسكرية، دفع ثمنها غالياً في وقت لاحق، يوم أُعطي الأمر لسلاح الجو التركي بإسقاط طائرة سوخوي روسية في أجواء الحدود السورية–التركية.
وأما الأمر الأكثر لفتاً للانتباه من الموقف السياسي العام، فهو التغيّرات السريعة في التموضع الجيوسياسي التركي، والذي يبتعد أكثر فأكثر عن حلف شمال الأطلسي –وتركيا عضو مؤسس فيه– باتجاه المحاور النقيضة، من حلف شانغهاي إلى الحلف الأوراسي اللذين تقودهما روسيا، في ظل مسار تصعيدي لتوتر العلاقات مع الغرب، كانت آخر فصوله قضية «تسميم» الجاسوس الروسي المنشق سيرغي سكريبال في بريطانيا، وما تلاها من إجراءات دبلوماسية غربية، وإجراءات مضادة روسية.
تغيير قواعد اللعبة
في ظل هذا المشهد العالمي المتحرّك، تأتي القمة الثلاثية التي جمعت رؤساء روسيا وتركيا وإيران في أنقرة لتمثل في الظاهر نجاحاً باهراً للرئيس فلاديمير بوتين، في سعيه إلى جذب تركيا نحو محور دولي جديد بدأ يتبلور مع بدء الحملة العسكرية الروسية في سوريا أواخر العام 2015.
ونهوض المحور الذي يتمتع بغطاء دولي واسع، يجسّده التحالف الروسي–الصيني الذي يتعزز يوماً بعد يوم، هو التحوّل الذي لطالما راهن عليه مناهضو المشروع الأطلسي والسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، لكونه يؤدي عملياً إلى خلط الأوراق الاستراتيجية والتوازنات الدولية، ويفرض قواعد جديدة للعبة في الشرق الأوسط، تجلت ببوادر نشوء تحالف سني–شيعي (تركي–إيراني)، في خضم النزاع المذهبي الذي أججته الولايات المتحدة وحلفاؤها، وتحديداً السعودية لإغراق المنطقة بـ«الفوضى الخلاقة».
وعلى هذا الأساس، ثمة تفاصيل كثيرة في الزيارة البوتينية لتركيا، ما يوحي بأنّ الشرق الأوسط، قد يكون مقبلاً على تحولات استراتيجية بعيداً عن الصراعات المذهبية التي أريد له أن يغرق فيها.
ولعل أبرز تفاصيل قمة أنقرة، إعلان بوتين عن تقديم موعد تسليم منظومة «أس–400» للدفاع الجوي لتركيا، في الوقت الذي كان يتواجد فيه وفد أميركي لمفاوضة أردوغان على إعطائه نسخة مطوّرة من نظام الباتريوت، وهي خطوة أتت في خضم الجدل الدائر حول إعلان دونالد ترامب عن رغبته بسحب القوات الأميركية من سوريا قريباً، والتصريحات المتناقضة الصادرة عن المسؤولين الأميركيين في هذا الخصوص.
التحول التركي
برغم ما سبق فإنّ المحاذير تبقى سيّدة الموقف في مقاربة الخيارات السياسية لرجب طيب أردوغان، وهو ما أظهرته موجات المد والجزر التي اتخذتها سياساته الخارجية خلال السنوات الماضية.
على هذا الأساس، فإنّ الوجهة العامة، التي يعبر عنها في المحافل البحثية الروسية، تبقى قائمة على أساس التعامل ببراغماتية في ما يخص الشأن التركي، وإن كانت الوجهة العامة تبدو أكثر تفاؤلاً في القول بأنّ الحراكات السياسية، التي يقودها الرئيس فلاديمير بوتين، في هذا الاتجاه، تؤشر إلى تحوّلات، تبقى مرتبطة بالخطوات المستقبلية.
وبعبارات أخرى، فإنّ روسيا تنظر بارتياح إلى أن العلاقات مع تركيا آخذة في التجذّر أكثر فأكثر، بدفع من المصالح المشتركة بين البلدين، والظروف السياسية التي جعلت أنقرة تخطو خطوات أقرب باتجاه موسكو، منها إلى واشنطن.
بطبيعة الحال، فإنّ الاقتصاد يبدو المحرّك لتلك الخطوات، فثمة إدراك متبادل بين روسيا وتركيا على حاجة كلّ منهما إلى الآخر لتطوير الاقتصاد من جهة، كما تدركان أن ثمة قيوداً تجعل تحويل التقارب الاقتصادي إلى تحالف سياسي، بحاجة إلى مزيد من عوامل الثقة التي تبدو فيها الكرة في الملعب الأردوغاني حصراً.
ولعلّ المدخل الرئيسي لبناء الثقة هذه، يتمثل في الموقف التركي من الصراع الدائر في سوريا، والذي عززته مخاوف أنقرة من التمدد الكردي وتهديد وحدة الأراضي التركية الذي بلغ ذروته في محاولة الإنقلاب الفاشلة على نظام أردوغان.
وفي هذا الإطار، فإنّ قمة أنقرة الثلاثية، التي سبقتها قمة مماثلة في سوتشي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ويفترض أن تليها قمة مماثلة أخرى في طهران، وفق ما اتفق عليه الرؤساء الثلاثة، قد تكون في مضمونها والنقاشات التي دارت فيها، بشأن الملف السوري بالذات، نقطة دفع باتجاه التحوّل الاستراتيجي الذي تتطلع إليه روسيا وحلفاؤها في المنطقة.
الملفت في الأمر، ما تضمنه البيان الختامي للقمة الثلاثية لجهة «التأكيد على أمن واستقرار وسيادة سوريا ووحدة أراضيها»، واتفاق الدول الثلاث على تنفيذ ذلك، ما يعني أن الوجود التركي في شمال سوريا ليس خارج هذا الالتزام، وبالتالي يفترض أن ينتهي، من خلال تفاهمات معيّنة.
ويأتي هذا التقارب الثلاثي تزامناً مع الإنجازات الميدانية التي حققها الجيش السوري خلال الشهر الماضي بتحرير كامل الغوطة الشرقية بعملية واسعة شاركت فيها حشود عسكرية ضخمة أجبرت المسلحين الرافضين للمصالحة على تسليم أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة والتوجه شمالاً إلى إدلب أو ريف حلب الشمالي، حيث تستعد تركيا لطرد «قوات سوريا الديمقراطية» الموالية لواشنطن من منطقة منبج.
وفي وقت لم يعد فيه لدى المسلحين مناطق نفوذ تهدد العاصمة دمشق، انحصرت أماكن تواجدهم في درعا جنوباً وإدلب شمالاً، إضافة إلى جيوب معزولة في محافظات أخرى.
تحولات قادمة
إنّ ما خرج عن قمة أنقرة الثلاثية يبدو معبّراً عن مسار تسعى كلّ من روسيا وإيران لإنجاحه، بما يضمن تكريس التفاهمات في الميدان، وهو ما سيمهّد لتفاهمات أوسع على المستوى الجيوسياسي.
على سبيل المثال، فقد تحدّث الرئيس فلاديمير بوتين عن أكراد سوريا، باعتبارهم مكوّناً أساسياً في العملية السياسية، ما يعني أنه ينبغي على تركيا التعامل مع المسألة الكردية بطريقة أكثر براغماتية، قياساً إلى الخطاب الدوغمائي السائد، والذي يصوّر الأكراد على أنهم «إرهابيون».
وفي الوقت ذاته، فإنّ الحديث عن وحدة الدولة السورية، قد يكون مطمئناً للأتراك، بشأن عدم قبول روسيا وإيران بكانتون دويلة كردية في الشمال السوري.
ومع ذلك، فإنّ الأمر يحتاج إلى خطوات ملموسة من قبل تركيا بالذات، وتتمثل بالقبول بتسوية تقضي بسحب قواتها من شمال سوريا، وتسليم المناطق المحتلة إلى الجيش السوري، باعتباره ضمانة «وحدة الدولة السورية» التي تحول دون تحقيق مشاريع انفصالية كتلك التي يسعى إليها الأكراد.
وإذا ما تحقق ذلك، فإن الخطوة التركية وما يقابلها من ضمانات روسية–إيرانية بشأن الأكراد، قد بدّدت الهواجس بشأن خيارات أردوغان، والشكوك التي تحوم حول سياسته في اللعب على حافة الهاوية وربما الاستدارة مجدداً باتجاه «الناتو».
الانسحاب الأميركي
وليست مصادفة أن يتزامن موقف المؤسسة الأميركية الرافض لإعلان ترامب بشأن الانسحاب قريباً من سوريا، مع ما خرج عن قمة أنقرة. إذ خرجت تصريحات عن مسؤولين أميركيين عقب اجتماع مجلس الأمن القومي الأسبوع الماضي، لتكشف موافقة مبدئية من ترامب على تأجيل الانسحاب إلى حين، بينما عاد إلى الواجهة الحديث عن طلب البيت الأبيض من السعودية المشاركة بمبلغ 4 مليارات دولار أميركي، في إعادة إعمار المناطق التي تخضع لنفوذ قوات حليفة للبلدين في سوريا!
ومع الهواجس الإقليمية والأوروبية من تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، فإنّ الديناميات الروسية، المرتبطة بخريطة طريق التسوية للصراع السوري الذي «يقترب من النهاية»، بحسب ما أكد بوتين، تسير على خطى أكثر ثباتاً، مقارنة بالإرباك الذي تتسم به سياسات الولايات المتحدة والسعودية، اللتين لم تعُدان تملكان الكثير من أدوات التخريب.
هذا الأمر، تبدّى في ما حمله البيان الختامي لقمة أنقرة، والذي جعل من مسار أستانا–سوتشي العنصر الثابت في التوصل إلى حل للصراع، لا فرق إن وقّع في جنيف أو في أي مكان آخر في العالم… وأمّا مفتاح الحل أو التخريب فيبقى تركيا نفسها التي تقترب أكثر فأكثر من حسم خياراتها، خصوصاً مع ضيق هامش المناورة في خضم التحولات الدولية وتطورات الميدان السوري.
Leave a Reply