وليد مرمر
في أيلول (سبتمبر) من العام الفائت وقبل حوالي الشهر من بدء التحركات المطلبية في لبنان أعلنت وكالة «بلومبرغ» في تعليقها على نية لبنان إصدار سندات سيادية بفوائد تتجاوز 14 بالمئة، إن العائد من هذه السندات قد يكون «أعلى سعر فائدة على سندات مقيّمة بعملة أجنبية في التاريخ»!
العجيب، أن هذا الخبر لم يستفز الخبراء والمراقبين ولم يحرك الثائرين كما حركهم إضافة رسم ستة دولارات شهرياً على تطبيق الواتساب. فالمعلوم أن من أنهى مقرر «اقتصاد 101»، أو حتى أقل، يدرك أنه كلما ازداد معدل الفائدة ازدادت معها نسبة المخاطر. لذلك ترى دولاً لديها فائض نقدي –كقطر – توظف أموالها بشكل كبير في قطاع العقارات في بريطانيا رغم اقتصار مردودها على أقل من 5 بالمئة، وذلك باعتباره استثماراً آمناً وقليل المخاطر.
«بلومبرغ» أشارت إلى أن عدداً قليلاً من الدول فقط أصدرت سندات دولارية بعوائد تزيد على 10 بالمئة خلال القرن الحالي في حين لم تتجاوز النسبة تاريخياً حاجز 13 بالمئة! فقد أصدرت فنزويلا سندات بعائد بين 11 و13 بالمئة في النصف الأول من هذا العقد، وأصدرت الإكوادور السندات الأعلى لهذا العام لكنها لم تصل إلى 11 بالمئة.
وكان وزير المالية اللبناني وقتئذ، علي حسن خليل، قد صرح بأن الوزارة والبنك المركزي اللبناني يبحثان إمكانية إصدار سندات دين بقيمة تصل إلى حوالي ملياري دولار لتأمين الأموال اللازمة، بعد تراجع ودائع وتحويلات المغتربين ومساعدات دول الخليج نتيجة للظروف السياسية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: «كيف يستطيع النظام المصرفي اللبناني تأمين تسديد تلك الفوائد العالية في ظل انكماش اقتصادي وغياب بنية تحتية صناعية أو زراعية أو حتى خدماتية؟ الجواب في غاية البساطة: «من دهنو قلّيلو»!
إن ما حصل في لبنان قد يكون أكبر عملية «پونزي» في التاريخ النقدي قاطبة!
ولكن ما هو الـ«پونزي سكيم»؟ أو«مخطط پونزي»؟
يعتبر تشارلز پونزي واحداً من أكبر المحتالين في التاريخ الأميركي وكان أول من أنشأ طريقة الاحتيال الشهيرة بـ«سلسلة پونزي» أو هرمية الوهمية، أو كما يقال: «تركيب الطرابيش».
ولد پونزي في إيطاليا في عام 1882 قبل أن يهاجر إلى القارة الأميركية في 1903. عمل أثناء وجوده في كندا لدى مصرفي إيطالي كان يمتلك بنكاً للاستثمار العقاري. ولكن سرعان ما أعلن إفلاسه بعدما تراكمت عليه الديون.
حينها، اكتشف پونزي أول درس له بشأن الاحتيال المصرفي، حيث كان مواطنه يغطي الفائدة الكبيرة التي كان يدفعها لزبائنه (6 بالمئة) ليس من أرباح البنك كما كان يزعم وإنما من نقود المودعين الجدد موهماً الجميع بأن البنك كان يحقق أرباحاً ليكتسب ثقة العملاء وتزيد معها مدخراتهم. وهذا ما طبقه پونزي على نطاق واسع بعد سيطرته على «بنك هانوفر» في بوسطن وتمكنه من أن يصبح رئيساً تنفيذياً له.
وبعد مسيرة حافلة بالاحتيال، سجن پونزي لبعض الوقت قبل أن يمضى سنواته الأخيرة في البرازيل في فقر مدقع، حيث عمل كمترجم، ثم أصيب بجلطة دماغية قبل أن يتوفى في مستشفى خيري في ريو دي جانيرو عام 1949.
لكن كيف تمت عملية الپونزي في لبنان؟
منذ عام 1997 قام مصرف لبنان بتثبيت سعر صرف الليرة وربطها بالدولار. وفي ظل اقتصاد ريعي نخره الفساد وانعدام الشفافية، كان على المصرف المركزي أن يؤمن استمرار تدفق الدولار إلى لبنان فلذلك أبرم صفقات مع المصارف الحكومية والمصارف التجارية المحلية لجذب العملات الأجنبية عن طريق تقديم أسعار فائدة أعلى بكثير من أسعار السوق الدولية مقابل استثمار هذه المصارف في الدين الحكومي.
ما هي النتيجة اليوم؟
يقترب الدين العام من مائة مليار دولار وهو مبلغ يكاد يعادل ضعف حجم الاقتصاد البالغ 55 مليار دولار. كما أن المصرف المركزي مدين للبنوك أيضاً بنفس هذا المبلغ تقريباً. والنتيجة ديون متراكمة تصل إلى 180 مليار دولار، أي ما يفوق ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد!
ولكي نصل إلى هذه المرحلة المعقدة من الديون، لا شك –كما تعلمنا من پونزي – أنها عملية أحتيالية منظمة بدقة واحترافية. إنها باختصار: «مخطط پونزي».
ولكن، ألم يكن أصحاب هذه العملية يعلمون أنها آيلة إلى الانهيار عاجلاً أم آجلاً؟
ربما كانوا يعلمون، ولكنهم كانوا يعوّلون على شيء ما سيحصل قبل الانهيار وكشف المستور، فتتدفق العملة الصعبة والثروة، من النفط مثلاً.
وبما أن «حساب الحقل لا ينطبق على حساب البيدر»، فقد أدت التحركات الشعبية وما تلاها من سحوبات ضخمة للودائع إلى الوقوع في المحظور والتعجيل في الانهيار.
وما زاد الطين بلة هو ما تسرب عن قيام بعض الجهات الأجنبية كمصرف «جي پي مورغن – تشيس» وغيره من المصارف الدولية بشراء نسب ضخمة من الديون أو السندات السيادية من المصارف الخاصة!
وهذا يعني أن الدين الذي كان معظمه (93 بالمئة) من مصارف محلية لم يعد كذلك!
وهذا يعني أيضاً أنه إن لم يقم لبنان بتسديد ما عليه من الديون مع فوائدها المتصاعدة فسيصبح عليه أن يتخلى عن أصوله غير النقدية التي قد يكون الذهب أولها، وليس آخرها!
Leave a Reply