«يسعد صباحك يلْ إنت للدنيا صباح»..
هكذا كانَ يستيقِظُ صباحُ لبنان على صوتِ الكبير وديع الصافي، وديع الذي حملَ لبنانَ إلى العالَم وعرَّفَهُ بجبالِهِ وسفوحِهِ وأنهارِه ووديانِه و«ضِياعِهِ» المنتشِرة على تلالِه وهضباتِه.
وقد عرَفَت السياحةُ اللبنانيّة الإزدهارَ من خلالِ هذا العملاق وتغنّيهِ بلبنان، فحتّى عندما كان يشدو بوجدانيّاته أو غزلِه كانت النكهةُ الوطنيّة تغلبُ على صوتِه.. كانَ يُطلِقُ عصافيرَ الفرح من على الشاشةِ الشرق أوسطيّة، فكانَ المطربَ الأوّل بتأريخِ الشرقِ العربيّ.
في مقابَلَةٍ تلفزيونيّةٍ مع زوجتِه، قالت إنّه كان يستدين النقودَ ليتصدَّقَ بها على المحتاجين، فهل هنالك أنبل من هذا الفنّان؟ ذلك أنّنا لو نظرْنا إلى باقي الفنّانين أصحاب الملايين ذوي العنجهيّة والنجوميّة الكاذبة والشخصيّات المهزوزة، لوجدنا أنّ أموالَهم جُمعتْ بطرقٍ ملتوية، هنا لستُ على سبيلِ التعميم، ولكنّ الأغلبيّةَ تنطبق عليهم هذه الأوصاف غير المُجحِفة، فيما وديع الصافي مات فقيراً ولكنّه عاشَ غنيّاً بالأخلاقِ الإنسانيّة الرائعة وعزّة النفس، ولهُ الفضل الكبير على الفنِّ اللبنانيّ والفنّانين اللبنانيّين، كان من كبار الرُسُلِ اللبنانيّين إلى العالَم، فقدْ عاشِ لبنان بمجدِ وديع الصافي وصوتِهِ المغرِّد، وهو صاحب الكاريزما المحبّبة للناس في أصقاعٍ كثيرةٍ من العالَم.. كانَ أرزةَ لبنان الخالدة.
في جلسةٍ عائليّةٍ ضمّتْ فيمن ضمّت، الشاعرَ الزجليّ زغلول الدامور، وكان وديع يحضنُ عودَه، خاطبَه الزغلول:
«غلطو اللي قالو العود قطعه من خشب
لكن بإيدك الأوتار عم تحكي حكي»
هنا لا تُسعفني الذاكرة بتكملة بقيّة البيت، فأجابهُ وديع:
«الأوتار بإيدي بتقول
شِعرك جميل أو مصقول
مين اللي سمّاك زغلول؟
إنتَ النسر اللبناني».
أثناء تشييع الراحل العزيز وديع، إنهمرَت دموعُ الفنّان صباح فخري على خدَّيه وأجهشَ بالبكاء بحُرقةٍ أبكتْ الجميع، علّهُ فكّرَ بالإضافةِ إلى فداحةِ الفقدان، بأنّ مصيرَه سيكون نفس مصير صديقِه الكبير وديع من حيث إهمالِ الدولةِ ومسؤوليها لهُ أثناء مرضِهِ، حتّى أنّ دولتنا الكريمة -وهي طبعاً غير ذلك- لم تتكرّم بجعل يوم وفاته يوم حِداد، ولا حتّى وقفتْ دقيقة صمت حِداداً على روحِه الطاهرة التي هي أطهر من أرواحِهم جميعاً، بل قدّمتْ لهُ وساماً مذهَباً بعد وفاتِه. أين كان هذا الوسام قبل وفاته؟ أليس من الأفضل أن تهتمّ الدولة بعلاجِه أثناء مرضِه؟ رغم أنّ قناعتي بأنّها لو وفّرت الوسام المذهّب لنفسِها، كي تستفيد منه أو من ثمن ذهبِه في تغطية مصاريف إحدى الرِحلات الإستجماميّة التي تقوم بها عصابة الدولة كلٌّ مع زوجتِه وعِياله..فالجميع يستجمّ على حساب الشعبِ الفقير المعدَم.
ماتَ وديع فقيراً لأنّه كان شريفاً، مَنْ شيّعَهُ هو الشعب المحبّ له ولصوتِه الذي دخلَ القلوب قبل البيوت. ورغم أنّه أمضى حياته النبيلة بعيداً عن بلدتِه لكنّهُ غنّى:
«جايين يا أهل الجبل جايين
إشتقنا لجبل نيحا وجبل صنّين»
نعم، اشتاقَ إلى جبل نيحا، ولكنّهُ عاد إليه بجسدِه الطاهر ليرتمي بين أحضانه في غمارِ السُبات، أهلُ هذا الجبل استقبلوا الحبيبَ العائد إلى بلدتِه استقبالاً يليق بمكانتِه، رغم حزنهم الشديد لفراقه، فعوّضوهُ ما فقدَه من دولتِه التي كان من الأجدى أن تقوم هي بهذا الواجب تجاه عملاقٍ رفعَ اسمَ بلدِه عالياً في كلّ المحافل دون أن ينتظر كلمةَ شكرٍ أو تقدير.
إلى جنان الخلد أيّها الكبير، وستبقى خالداً في قلوب الجميع مع شدوِكَ المصاحب للذاكرة مدى الدهور، رحلتَ بالجسد وبقيتَ خالداً كأرزِ لبنان الذي أحببتَه.
نبذة عن الفنان وديع الصافـي
ولد وديع فرنسيس عام 1921 في بلدة نيحا بجبل لبنان، انطلق في عالم الفن عام 1938، حين فاز بالمرتبة الأولى في مباراة لراديو الشرق عن فئات التلحين والغناء والعزف وعرف باسم وديع الصافي.
وحمل الصافي في «حنجرته الذهبية» وطنه إلى العالم العربي، إذ باتت أغنية «لبنان يا قطعة سما» أشهر من النشيد الوطني، واختصرت في كلماتها قصة هذا الوطن. وكان له الدور الرائد بترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد.
وغنى للعديد من الشعراء، خاصة أسعد السبعلي ومارون كرم، وللعديد من الملحنين أشهرهم الأخوان رحباني، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، رياض البندك. لكنه كان يفضل أن يلحن أغانيه بنفسه لأنه كان الأدرى بصوته ولأنه كان يدخل المواويل في أغانيه حتى أصبح مدرسة يحتذى بها.
غنى أكثر من خمسة آلاف أغنية وقصيدة لحن معظمها ومنها اغنية «طل الصباح وزقزق العصفور» و«لبنان يا قطعة سما» و«صرخة بطل» و«الليل يا ليلى يعاتبني» و«شاب الهوى وشبنا» و«مريت ع الدار» و«لوين يا مروان» و«عصفورة النهرين» و«الله يرضى عليك يا ابني» و«الله معك يا بيت صامد بالجنوب» و«موال يا مهاجرين ارجعوا».
كما غنى «طلوا حبابنا» من ألحان الاخوين رحباني ومع فيروز ونصري شمس الدين غنى «سهرة حب» و«يا شقيق الروح» و«عندك بحرية» من الحان محمد عبد الوهاب و«على الله تعود على الله» من الحان فريد الاطرش. واشتهر الصافي بأغنية «ولو» المأخوذة من أحد افلامه السينمائية، وشكلت هذه الأغنية علامة فارقة في مشواره الفني وتربع من خلالها على عرش الغناء العربي، فلقب بصاحب الحنجرة الذهبية، وقيل عنه في مصر أنّه مبتكر «المدرسة الصافية» في الأغنية الشرقية.
ويحمل الصافي ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلى جانب جنسيته اللبنانية، إلاّ أنه يفتخر بـ«لبنانيته» ويردد أن «الأيام علمته بأن ما أعز من الولد إلا البلد».
Leave a Reply