• بقلم: كمال العبدلي
قد لا يخضع الأمرُ إلى التعميم، كما هو ليس استثناءً أن يمرَّ الإنسانُ عبْرَ رِحلةِ حياته، بمحطّاتٍ يتوقّف عندها ويستعيد مَشاهِدَها، سواءً اتّخذَتْ شكلَ المناسبة أو الشخوص أو كليهما معاً أو حالةً من حالات افتراقِ الطرُق كأيّامِ اللجوءِ مثلاً، أو إزاء موقفٍ يستثير الشجَن كتوديع عزيزٍ أو لقاء أهلٍ بعد غِيابٍ طويل أو لحظة تلقّي نبأ النجاح في امتحانِ الدراسة، أو استلام نتيجة القبول في الوظيفة الأولى.
ولهذه التوقّفات أسبابٌ عديدة تأتي في مُقدِّمتها المُفارَقة، إذ ينطّ المشهدُ المُستحضَر أو المُتأمَّل من دون أن يكونَ له قرين، أي ينتصب مُتفرِّداً في سِياق العُمر، كبُرج إيفل في باريس وقوس النصر في إنكلترا وبوّابة براندنبورغ في برلين والأهرامات في مصر ونصب الحرية في نيويورك، وسبارتكوس والشعلة والسهم في السينما وبيكت في المسرح وبحيرة البجع في الموسيقى السيمفونية والموناليزا في الرسم، ومآسي النوويّة في هيروشيما وناكازاكي التي تُذكِّر باستعراض الأقطاب لعضلاتهم النوويّة اليوم، وكأنّهم صِبيةٌ في زقاقٍ قديم، يريدون أن يتقاذفوا بالحِجارة، وليس بكبسولات الدمار الشامل على كوكبٍ يكتظُّ بحياةِ الشعوب.
وإذا كانت قِلاعُ النتائجِ والنَتاجاتِ المُجسَّمَةِ أو المعنويّةِ قائمةً، فإنّ الآليّات والأسباب التي أدّت إلى تثبيتِها أمام العَيان تبقى مُتناثرةً خارجَ أسوارِها.
إنّ المَشاهِد الراسخةَ في الذاكرة، رسْماً كانت أو متحرِّكةً، يُتيحها الفضاءُ النقيّ الصافي المُتأتّي من جهةِ عالَم الطفولة قبل أن تهجم عليها أدخنةُ الحرائق المُكتشَفة في المراحل اللاحقة التي تعقبها، وهنا ربّما تنعقد العُقدة النفسيّة الأولى، المتمثّلة في مواجهةِ البراءة لِعالمٍ يتحرّك وفقَ نظريّة المؤامرة، فكم يبعث على المرارة حين يكتشف المخلوقُ البشريّ أنهارَ الدماء التي سالتْ قبل خَلقِه، لِيبرزَ السؤالُ المشروع عمّا إذا كانت هنالك من فائدةٍ مُجتناة من جرَيانها، ولتنطلق سِهامُ الحكمةِ من مكامنِها في التصويبِ على بؤرة لوحة القرار، فيُصار إلى بلورَة السؤال المشروع الآخر: لماذا الاتّجاه إلى صناعة الموت والدمار بدلاً من صناعة الجَمال؟ والجمالُ بانوراما تتشكّل من عالَمٍ يخلو من الوحوش الفتّاكة الضارية ثُلاثيّة الأنياب النيليّة، الجهل والفقر والمرض.
في وجهٍ من الوجوه، تحتفظ الأغذيةُ بقيمتها لمدّة تطول أو تقصر، بوسائلَ مختلفة كالتجفيف والتجميد والتحلية والتمليح والتعليب، فيما الوعاءُ المختصّ بالذاكرة في الدماغ يكون مثل القارورة التي تحتفظ بالعسل دون أن يناله التفسّخ طيلة حياة الإنسان.
وعلى جريِ الانتقاء من مهرجان المَشاهد الراسخة في ذهني، والتي أحرص دائماً على أن لا تتفلّتَ منّي، إذ أراجعها –دون إرادةٍ مُسَبَّقة– بين آونةٍ وأخرى كلّما سنحت الفُرص، لكونها منطويةً على سرّ اكتنازها لبريقِ حضورِها الدائم، كان اليومُ الربيعيُّ الذي احتفينا خلاله، ساعةَ دقّت الأجراسُ الاعلاميّةُ مُعلنةً تنصيب الزميل أسامة السبلاني إسماً صحفيّاً يرتقي إلى مصافّ الرمز بقاعةِ مشاهير الصحافة في العاصمة لانسنغ.
في الذاكرة
نهارَ الحادي والعشرين من نيسان (أبريل) عام 2013، كان ربيعيّاً بامتياز، وهو النهار الذي انطلقنا خلال ساعاته إلى العاصمة لانسنغ حيث مكان الاحتفال في فندق «كيلوغ» والبناية التي تضمّ قاعةَ مشاهير الصحافة في ميشيغن، كما كان مقرّ التجمّع والانطلاق في مبنى الجريدة الواقع على تقاطع شارعَيْ تشايس وفورد، وفيما كان المحتفِلون يتقاطرون على المكان، كانت النسائمُ الربيعيّة تتوافد هي الأخرى ناشرةً هواءَها الرهيف الرفيف في الأجواء مُحيطةً الوجوهَ بملامسات النعومة التي لا تُضاهيها أيّةُ نعومةٍ أخرى ومن أيِّ مصدرٍ جاءت حتّى ولو من خدود الورد، وكنتُ ألحظُ آثارَها في وجه الزميل العزيز أحمد السبلاني، الذي لم أرَهُ فرِحاً على الإطلاق مثلما في تلك الساعات الضاجّة برفيف البهجة في القلوب، وربّما وقعُ المناسبة قد تزامنَ مع هبوب نسائم الربيع وانثيال مشاعر الفرح الذي لا أشكّ بمضاهاته في فرحة ولادة ابنه البِكر، حقّاً كان وجهُهُ حقلاً لتفتُّحِ الأزهار من شدّة الفرح، حتّى استحضرتُ تشبيهَ الشريف الرضيّ في واحدةٍ من قصائدهِ: «كأنّما كرَعوا على ظمَأً من الصهباءِ».
المحتفِلون قاربَ عددُهم الخمسين، يتقدّمهم قنصل لبنان العام في ديترويت الأستاذ بلال قبلان، كما كان منهم قادةٌ لمؤسّسات عديدة تمثّل الجالية وحشدٌ من رجال الأعمال والأقارب والأصدقاء بالإضافة إلى كادر الجريدة وأفرادٌ من أبناء الجالية فاجأوا بتهيئة كلّ مستلزمات السفرة إلى لانسنغ التي تبعد حوالي تسعين ميلاً عن مقرّ الجريدة في ديربورن، بدءاً من إحضار الحافلة المتميزة إلى طبع وتثبيت يافطة الاحتفالية على أحد جانبَيه.. وصولاً إلى لانسنغ.
لن أتطرّقَ إلى تفاصيل وقائع الإحتفاليّة من حيث مضامين الكلمات التي ألقيَتْ خلالها أو انعكاسها الإيجابي في تاريخ الجالية بتثمين صوتِها عبر صحيفتِها الإثنيّة الأولى من خلال صعود ناشرِها السبلاني إلى قاعة مشاهير الصحافة، فهي مُؤرشَفة ومنشورة ضمن عدد الجريدة المرقّم 1420 الصادر في 27 نيسان (أبريل) 2013، لكنّ مُقتَطَفاً من كلمة الزميل السبلاني جاء في سِياق التأثير المباشر في الوجدان، حيث ذكَرَ والدتَه التي فارقَها في العام 1976 بسبب هجرتهِ إلى الولايات المتّحدة، والتي توفّيَتْ بلبنان في العام ٢٠٠٣، إذ كانت تقول لمن يسألها عنه: «هلّا سمعتم شيئاً عن ابني الصحافي في أميركا؟»، مُردِفاً في كلمتِهِ: «إنّها حاضرةٌ في مكانٍ ما هنا، تنظر إليَّ بفخرٍ واعتزاز وتبتسم.. شكراً لكِ يا أمّي».
كما لن أتطرّقَ إلى أحابيل العوائق السياسية التي كادت تحول بين السبلاني الذي سخّرَ جريدته في الدفاع عن حقوق أبناء الجالية وتبنّي قضاياها العادلة، وبين إدراج اسمِهِ ضمن قاعة مشاهير الصحافة، من قبل مؤسسة بارزة موالية للكيان الصهيوني وهي «رابطة مكافحة التشهير»، ذلك أنّ تفاصيلَها هي الأخرى منشورة ضمن نفس عدد الجريدة المذكور آنفاً، لكنّني أشير هنا مشيداً بالحكمة التي تصرّفَ بموجبِها الزميل السبلاني في التغلب عليها.
وبعد.. ليس حفلُ العرسِ وحده يحملُ معه خاصّيّةَ الزفاف، وإنّما هناك أعراسٌ تستحقّ إيقاعات الزفاف وأشهرُها عرسُ الكلمة.
Leave a Reply