في الأكواريوم (حوض أسماك الزينة) ثمة أسماك برتقالية تسبح وتؤلّف الجمال والمتعة بكل تلقائية. لكن لا أحد ينتبه إلى تلك السمكة الغريبة التي تدعى -بشكل يصادم جماليات اللغة، واحتمالات الماء- بـ”السمكة الزبّالة”، لأنها وبكل بساطة تقوم بتنظيف الأكواريوم من بقايا وفضلات الأسماك..
وعالم الأسماك، مثل عالمنا نحن البشر، مع اختلافات باهظة، ولكن هذا لم يمنعنا من تشبيه أنفسنا بهم، فحالنا كحالهم، حيث “السمك الكبير يأكل السمك الصغير”، وحيث لوعة المغني الشعبي تصل إلى صميم الماء، لأنه “حتى السمك في المي يلفي على ولفه”. وكحال السمكة الزبّالة يوجد بشر زبّالون، لا ينتبه إليهم أحد!
الزبّال شخصية غير محترمة في وجداننا ووعينا العربي، (بكل تكاد تكون شتيمة)، من دون أن ننتبه إلى أن “قذارة” الزبالين تأتي بسبب فضلاتنا وزبالتنا وقاذوراتنا. والزبّال بهذا المعنى.. شخصية تراجيدية من نوع خطير.. فهو قذر لأنه يحافظ ويناضل في سبيل نظافة الآخرين، ولكنه وياللعجب لا يستطيع أن يفعل ذلك وهو بكامل أناقته ونظافته. فضلاتنا وزبالتنا تلطّخ كل شيء!
والزبّال، بمعناه التراجيدي، شخصية غير محظوظة، في فنوننا وآدابنا، وقلما نرى مسلسلا أو لوحة أو أي عمل فني آخر يتناول شخصية الزبّال، لأننا لا نريد تلويث الشاشات التلفزيونية والسينمائية، وفراشي الأوان، وسلالم الموسيقى، ولا نريد تلويث القصائد والروايات. المكوجي.. أفضل حظاً من الزبّال في فنوننا. وكثيرة هي المشاهد التلفزيونية التي نرى فيها المكوجي وهو يواجه موقفاً عصيباً مع صاحب البيت الذي دخل فوجد شخصاً غريباً في بيته، فيتساءل بغضب: أنت مين حضرتك؟ فترد الزوجة بالنيابة عن المكوجي الذي انعقد لسانه بسبب الخوف، والمفاجأة: ده المكوجي. ويسأل الرجل مرة أخرى: الله.. والمكوجي بيعمل إيه في بيتي في ساعة زي دي؟
أبوك كنّاس!.
كنّا أطفالاً (ولم نكن أبرياء ولن نكون) وكنّا نتقاذف هذه الجملة من باب اللعب. على أساس أنها تحمل معنى مخفياً (أبوك كالناس = مثل الناس)، وهكذا منذ نعومة أظفارنا تعلمنا كيف نتلاعب على الألفاظ، وفيما بعد، على الأفكار، والنظريات، والعلاقات. وجدان أمة كامل يقوم على التلاعب، والتشاطر، والتذاكي، والتلون، وممارسة أعمال السيرك والبهلوانيات، التي تنطوي دائماً على خدع طفولية مكشوفة، ولأننا مع ذلك لا نستطيع دحضها..
من زبالتهم تعرفونهم!..
في مسرحية الزبّال (لممدوح عدوان) تغدو الزبالة مختبراً ذكياً للتعرف على أصناف البشر واهتماماتهم وميولهم وتموضعهم الطبقي وحالاتهم المادية وإقياءات مشاعرهم. وأكوام الزبالة التي تملأ “القاهرة” هذه الأيام، (بسبب خلافات مع شركات التنظيف)، ليست مجرد صدفة أو خطأ تقني أو مهني. هناك خطأ فاقع في البنية الاجتماعية والسياسية يتسبب في إنتاج زبالات لا تقوى القاهرة (وكذلك المدن العربية الأخرى بلا استثناء) على استيعابها. ثمة زبالة أكبر من أن نستيطع إزالتها أو إعادة تكريرها..
بالحق، من زبالتهم تعرفونهم!
وكان الجاحظ، أحد أساطيننا المعرفية قد كتب في كتابه الشهير “الحيوان” أن قوائم الفيل لا تحتوي على مفاصل. وكتب أيقونتنا الأخرى الرحالة الشهير ابن بطوطة أن الإهرامات هي عبارة عن أبنية مخروطية الشكل (في الواقع هي هرمية الشكل) ما يعني بشكل واضح أن كلا الرجلين كان يكتب بدون أدنى معرفة. بمعنى آخر.. كانا يؤلفان.. وبمعنى أكثر فجاجة كانا يكذبان.
واتصالا بالكتابة، كانت معظم “زبالتي” قبل مجيئي إلى “الأرض الجديدة” من الكتب، وكانت “أم سامر” صاحبة البيت الذي استأجره تستنكر ذلك، ولم أجد الفرصة الكاملة لأخبرها، أنه ليس كل ما يكتب نور، وليست كل كتابة نزيهة، أو صادقة، بل يمكن القول.. إن تاريخ الكتابة مخزٍ، إلا فيما ندر!
الآن، والعام الجديد على الأبواب، وفيما يطمح البعض أن يكون “رجل العام” أو “بطل العام”، أستطيع أن أصف نفسي بأنني كنت بلا توقف: زبّال العام 2009.
Leave a Reply