عندما حصل تفجير السيارة المفخخة في بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت، كشفت «صدى الوطن» استناداً الى مصادر لبنانية أن مجموعة تكفيرية كانت وراء العملية الإرهابية، وجاء تقرير مديرية المخابرات في الجيش اللبناني ليثبت ذلك وليكشف بالأسماء المتورطين في هذا التفجير، وبإطلاق الصواريخ على الضاحية الجنوبية وبعبدا، وكذلك في مقتل عسكريين في عرسال، ووضع عبوات ناسفة في الهرمل ومجدل عنجر وشتورا.
ومتفجرة الرويس التي كشفت التحقيقات، أنها وُضعت في سيارة وتزن أكثر من مئة كغم من المواد المتفجرة والحارقة، تقف وراءها عناصر تكفيرية من جنسيات لبنانية وفلسطينية وسورية، وهو ما يؤكّد أن لبنان تحول الى «أرض جهاد» لهذه الجماعات التكفيرية التي تنتمي الى «القاعدة» عقائدياً، وتجهّل المجتمع وتكفّره، وتدعو الى «حكم الله» والعمل بالشريعة التي أنزلها على رسوله، وتحت هذا «الإيمان الديني» المزعوم جرت قراءة للإسلام وتحريفه له، من خلال مذاهب فقهية اختلقها دعاة مثل محمد بن عبد الوهاب، وسيد قطب، وابن تيمية، والموردي وحسن البنا وغيرهم ممن قاموا بتأويل الإسلام.
ظهور التكفيريين فـي لبنان
لقد دخل التكفيريون الى لبنان في مرحلة الحرب في أفغانستان ضد النظام الشيوعي في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وبدأت تظهر «الجماعات الإسلامية» بغطاء أميركي ودعم خليجي، تحت عنوان محاربة الإلحاد الذي تمثله الشيوعية، وقد استخدم «الإسلام السياسي» من قبل الاستعمار والغرب لتنفيذ مشاريعه، فنشأ تنظيم «الإخوان المسلمين» في وجه الفكر القومي في مطلع العشرينات، واعتبره مستورداً من الغرب الذي كانت الحركات القومية ناشطة فيه، وأنه يحمل في بذوره توجهاً علمانياً، هو ضد الدين، وكانت الدعوة الى إعادة إحياء «الخلافة الإسلامية» التي انهارت مع سقوط «السلطنة العثمانية» في الحرب العالمية الأولى، وظهور الدولة التركية برئاسة مؤسسها كمال أتاتورك الذي أقام نظاماً علمانياً، في العام 1926.
وهذا «الإسلام السياسي» كان أداة بيد الأنظمة أيضاً، في مواجهة الصعود القومي والفكر الماركسي (الشيوعي)، وقد حاول «الإخوان المسلمون» في مصر اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان صاحب دعوة للوحدة العربية، ومتصدياً للمشاريع الاستعمارية الغربية ومنها العدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسي-الإسرائيلي على مصر في العام 1956، الذي فشل، وقد تزامن هذا العدوان مع محاولة اغتيال عبد الناصر الذي واجه «الإخوان المسلمين»، واستطاع أن يؤمن حضوراً قوياً للفكر القومي والدعوة الى الوحدة العربية في كل الدول العربية، وتراجع «الإسلام السياسي»، أمام هذا النهوض القومي الذي كانت فلسطين قضيته، ولم يعرف لبنان وجوداً «للإسلام السياسي» لاسيما التكفيري منه كما هو اليوم، ولم يكن الصراع مذهبياً كما يحصل في هذه الفترة، وقد ساعد ذلك إنشاء جمعيات تحت أسماء دينية، في وقت كان الفكر القومي والتقدمي يتراجع أمام نمو «الحالات الإسلامية» التي كانت تبدأ بتدريس القرآن، الى أن تتحول بعض المساجد الى أماكن لتخريج تكفيريين يرفضون الآخر ويدعون الى الخروج على «جاهلية المجتمع»، وقد ظهر هؤلاء بعد انتهاء الحرب في أفغانستان وسقوط النظام الشيوعي ووصول طالبان الى الحكم، وإنشاء أسامة بن لادن لتنظيم إسلامي عالمي تحت إسم «القاعدة» لقتال الكفار الصليبيين والمرتدين على الإسلام من السّنّة والروافض من الشيعة ومَن يماثلهم من مذاهب أخرى كالعلويين والإسماعيليين والدروز إلخ…
وأول ظهور «للإسلاميين الجهاديين» في لبنان، كان في العام 1999، مع «جماعة التكفير والهجرة» التي افتعلت أحداث جرود الضنية وقتلت ضابطاً وعسكريين، ثم في اغتيال قضاة أربعة في قصر العدل في صيدا عام 2000، على يد «عصبة الأنصار» التي قتل عناصر منها رئيس جمعية «المشاريع الخيرية الإسلامية» (الأحباش) الشيخ نزار الحلبي في العام 1995 في بيروت، لأن الفكر الذي يحمله هو من صنع الشيخ عبدالله الهرري وهو من الجشة (أثيوبيا) الذي تصدى للبدع التي أطلقها مؤسس الوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولقد جاء الاحتلال الأميركي للعراق، ليعطي دفعاً لقوى إسلامية تابعة «للقاعدة»، من أجل التصدي «للاحتلال الصليبي» لأرض الرافدين، والروافض الشيعة الذين تعاملوا معه، للوصول الى السلطة، وهكذا بدأ صراع سنّي-شيعي على أرض العراق، هو امتداد للحرب العراقية-الإيرانية التي تمت تغذيتها من أميركا ودول الخليج، لمنع «الثورة الإيرانية» التي انتصرت في العام 1979 على شاه إيران، وتخوّفت دول الخليج من أن تمتد إليها، وتحرك الشيعة فيها في البحرين والسعودية والكويت إلخ…
وهذا الصراع تحدث عنه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر وتنبأ به، عندما تحدث عن مئة عام من الحرب السّنّيّة-الشيعية، على غرار حرب المئة عام بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا، وها قد مرّ حوالي 34 عاماً منها، وهي مستمرة بوجوه عديدة، وأن ما يحصل في العراق من تفجيرات على أساس مذهبي يدخل في هذه الحرب المستمرة، وكذلك المعارك الدائرة في سوريا التي لا تبتعد عن المشهد العراقي، الذي يتّجه نحو حرب أهلية، بحسب تحذيرات من الأمم المتحدة ودول أخرى، ومن التقسيم الذي أقرّه الدستور العراقي عندما تحدث عن «الفدرلة»، وأن سلطة الحكم الذاتي للأكراد في إقليم كردستان تقع في هذا الاتجاه، وكذلك مطالبة السّنّة في غرب العراق بدولتهم، وهو المشروع الذي كان معداً لتقسيم بلاد ما بين النهرين الى ثلاث دويلات في العشرينات من القرن الماضي.
وفي لبنان فإن التكفيريين باتوا اكثر حضورا ونفوذا قويا في مناطق ذات كثافة سكانية في عرسال والشمال وصيدا وأحياء في بيروت كالطريق الجديدة وحارة الناعمة وشكلت حاضنا سياسيا وشعبيا لها وقد اعتقلت مخابرات الجيش والأجهزة الأمنية شبكات ارهابية لها صاة مباشرة بالأعمال الإرهابية وينتمون الى تنظيم «القاعدة» الذي أعلن وزير الدفاع فايز غصن عن وجوده، لكن مسؤولين آخرين ومنهم وزير الداخلية مروان شربل أنكروا ذلك، ليتبيّن أن مخيم عين الحلوة بات تحت سيطرة «جند الشام» و«فتح الإسلام» و«عصبة الأنصار»، وأن هذه المجموعات تدين بالولاء لـ«القاعدة»، وأن شاكر العبسي عندما حضر الى لبنان صيف 2006، كان يعمل مع «أبو مصعب الزرقاوي» في العراق، جاءوبقرار من الرجل الثاني في «القاعدة» أيمن الظواهري الذي أعلن أن لبنان هو «أرض جهاد» وقد أصبح المسؤل الأول بعد مقتل بن لادن في باكستان بعملية غامضة نفّذتها المخابرات الأميركية دون معرفة تفاصيلها، واختفاء أي أثر لجثة بن لادن التي قيل أنها رُميت في البحر.
حضر العبسي الى لبنان لتنفيذ قرارالظواهري وتحويله الى «أرض جهاد» ضد القوات الصليبية الممثلة بالقوات الدولية في الجنوب لتنفيذ القرار 1701، ولمقاتلة «حزب الله» الذي زعم انه تحول الى «حرس حدود لإسرائيل»، والسعي الى إقامة «إمارة إسلامية» في لبنان، والتمركز في منطقة قريبة من الحدود مع فلسطين المحتلة، وقد نفّذ «القاعديون» عمليات ضد القوات الدولية، وانتقل العبسي الى شمال لبنان لإقامة «إمارة إسلامية» تبدأ في طرابلس كما حصل في منتصف الثمانينات مع «حركة التوحيد الإسلامي»، وأن العائق أمامها هو وجود الجيش اللبناني، فكان القرار بضربه وإخراجه من الشمال، لكن مشروعه فشل وكلّف المؤسسة العسكرية 170 شهيداً بين ضابط وجندي و1500 جريح وتدمير مخيم نهر البارد الذي دارت المعارك فيه في أيار من العام 2007 وانتهت في آب منه.
ومع سقوط مشروع العبسي بعد «جماعة التكفير والهجرة»، كان لا بدّ من التوجه نحو «حزب الله» الموضوع على لائحة الإرهاب أميركياً، وجناحه العسكري أوروبياً مؤخراً، وقد قامت حملة ضده لـ«شيطنته» وتحميله مسؤوليات تدخله في دول أخرى، بدأت في مصر أيام حكم حسني مبارك بتهمة تهريب سلاح للمقاومة في غزة، الى إنشاء خلايا في السعودية ونيجيريا ومساعدة المنتفضين في البحرين، وتفجير باص في بورغاس ببلغاريا، ومحاولة أخرى في قبرص، الى سوابق في الأرجنتين وغيرها.
كل هذه الأجواء، رافقها تحريض لبناني داخلي ترأسه «تيار المستقبل» وحلفاؤه في «14 آذار»، ضد الحزب وسلاحه، واستغله «التكفيريون» الذين رأوا الفرصة مناسبة لتكفير الحزب ومَن يحالفه للإنقضاض عليه، لأنه استهدف أهل السّنّة والجماعة و«أهانهم» في «7 أيار»، كما في إسقاط حكومة سعد الحريري، ليمسك بالسلطة ويأتي برئيس حكومة تابع له ودمية في يديه حسب الإتهامات. وقد بلغ التحريض المذهبي ذروته، مع بداية الأحداث في سوريا التي دخلها «حزب الله» هذا العام، بعد أن بدأ خطر القوى التكفيرية يقترب من البقاع، إضافة الى أن سقوط النظام في سوريا يهدّد المقاومة بخط إمدادها الاستراتيجي بالسلاح وعمقها الحاضن، فكان قرار الوقوف الى جانب الرئيس الأسد الذي لم يبخل في تقديم السلاح الى المقاومة أثناء حربها مع إسرائيل في 2006، ومن ضمن هذا السلاح قاذف «كورنيت» الذي دمّر دبابات «الميركافا» أثناء محاولتها اجتياح الجنوب الى صواريخ ضد البوارج وأخرى أرض-أرض وصلت الى عمق الأراضي المحتلة.
كان انخراط «حزب الله» في المعركة كما يقول أمينه العام ضرورة استراتيجية للمقاومة، التي جوبهت بحملة تكفير، من قبل رجال دين سنّة تقدمهم الشيخ أحمد الأسير الذي أشهر حربه على الحزب، ومثله الشيخ سالم الرافعي وداعي الإسلام الشهال وآخرين، الذين وتحت عنوان مشاركة «حزب الله» في معركة القصّير ومناطق أخرى في سوريا، لا بدّ من ردّ عليه، كما يحصل في سوريا والعراق، باستخدام السيارات المفخخة التي يتقنها تنظيم «القاعدة» ومَن يدور في فلكه، فكانت الصواريخ على الضاحية، ثمّ تفجير بئر العبد وأخيراً تفجير الرويس، حيث وقعت العناصر التي قامت بها، بقبضة الأمن اللبناني من مخابرات وقوى امن وأمن عام، وكان هذا الاكتشاف السريع، لإثبات الجهة التي تقف وراء هذه الأعمال الإجرامية، لأن الاحتمال الأقوى والأكثر حضوراً كان سيوجّه الى العدو الإسرائيلي الذي له تاريخ في الإجرام والمجازر والتفجيرات والاغتيالات، ولأن الصراع بينه وبين المقاومة قائم ومستمر، لكن الرصد الأمني كشف عن منفّذي التفجيرات، وأظهر وجود شبكات كانت تحضّر لعمليات أخرى ومنها سيارة الناعمة، التي عليها بصمات الشيخ الأسير الذي ظهر بعد التفجيرات مباركاً ما حصل، ومتوعداً السيد نصرالله، كما أن القوى السلفية في طرابلس والشمال ابتهجت بما حصل في الرويس، إلا أن الأخطر هو أن العناصر المشاركة في هذه العمليات هي من عرسال في أغلبيتها، مما يطرح خطورة انفجار سنّي-شيعي، بعد تراكم الحوادث من خطف وقتل والتي حصلت في المنطقة وتحديداً بين عرسال ومحيطها.
فهل سقطت المظلّة الدولية عن لبنان، التي كانت تؤمن الاستقرار له، وإبعاده عن الصراعات الخارجية، ولعبة الأمم والمحاور، ودعم للجيش في الحفاظ على الأمن والسلم الأهلي، وتأييد سياسة النأي بالنفس، التي أدتها الحكومة السابقة لفظياً، ولم تمارسها عملياً، مما أدّى الى تدخل أطراف لبنانية في الصراع في سوريا، وكل منها له ارتباطاته الاقليمية وهو ما سرع بامتداد الحريق الى لبنان الذي ارتبط مصيره بالوضع السوري، وازماته الداخلية بالحل في سوريا منذ أن تمّ التمديد لمجلس النواب وتعثر تشكيل حكومة والتمديد لقائد الجيش واحتمال عدم حصول انتخابات رئاسة جمهورية، الى بدء مسلسل التفجيرات الذي لن يتوقف، وقد أدخل لبنان في النفق، ووضعه أصبح على حافة الانفجار إذا لم يقم وفاق سياسي داخلي ينقذ البلاد، وهو أمر مستبعد. إن الإنزلاق نحو الهاوية الذي حذر منه السيد نصرالله قد بدأ..
Leave a Reply