كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في تعريف السياسة، لا خصومة دائمة كما لا صداقة دائمة، بل تبادل مصالح، وهو ما ينطبق على الوضع في لبنان، الذي تكاد السياسة تخلو فيه من الأخلاق التي هي شرط العمل السياسي البناء لقيادة الشعوب وازدهارها وقيام الدولة ومؤسساتها تحت سقف الدستور والقانون، أما في لبنان –البلد المركّب طائفياً– فتتقدم المصالح الشخصية والفردية بعباءة مذهبية على حساب المواطنة والدولة.
افتعال الأزمات
قبل نحو أكثر من شهرين، وقعت حادثة في بلدة قبرشمون–قضاء عاليه في جبل لبنان، عندما قطع عناصر من «الحزب التقدمي الاشتراكي»، الطريق على رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، الذي كان سيقصد بلدة كفرمتى في المنطقة نفسها، لزيارة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز ناصرالدين الغريب عم الوزير صالح الغريب، وكلاهما محسوب على رئيس «الحزب الديمقراطي اللبناني» طلال إرسلان، فقُتل شابان هما رامي سلمان وسامر أبوفراج، كانا في موكب الوزير الغريب، مما خلق توتراً أمنياً وعطل عمل الحكومة لأسابيع طويلة. إذ اعتبر «الاشتراكي» أن باسيل يدخل الجبل متحدياً، وليس من باب المختارة، بل من دار خلدة، فاتُّهم بنبش قبور الحرب الأهلية وانتهاك «مصالحة الجبل» التي حصلت عام 2001 برعاية وليد جنبلاط والبطريرك الماروني السابق نصرالله صفير، فكان رد رئيس «التيار الوطني الحر»، أن الجبل ليس حكراً على أحد، وأن من حق المسيحيين أن يعودوا إليه سياسياً وإدارياً وإنمائياً. مثيراً هواجس جنبلاط من تحالف التيار البرتقالي مع إرسلان الذي أعلن أن الطائفة الدرزية ليست حكراً على زعيم المختارة، وأن التوازن داخلها يجب أن يُصحّح.
هذه السجالات، دخل عليها أطراف آخرون، فساندت «القوات اللبنانية» جنبلاط، ووقف رئيس الحكومة سعد الحريري في منتصف الطريق، في حين أعلن «حزب الله» دعمه لحليفه إرسلان، أما الرئيس نبيه برّي فنأى بنفسه عن الصراع الدرزي–الدرزي، كما عن الصراع السياسي بين «الاشتراكي» و«التيار الوطني الحر»، مبادراً إلى عقد مصالحة، تولّى تسويقها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم.
مصالحة بعبدا
بعد تأزم الوضع السياسي، وتعطيل أعمال الحكومة لحوالي شهرين تحت عنوان الخلاف حول الجهة القضائية التي ستتولى حادثة قبرشمون، التي اعتبرها إرسلان محاولة لاغتيال وزيره وتهديد السلم الأهلي ويجب إحالتها إلى المجلس العدلي، في وقت رفض جنبلاط ذلك، واعتبر أنه مستهدف قضائياً وسياسياً، إلى أن وصلت الأوضاع إلى مرحلة حرجة مع تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية التي تعيشها البلاد، فتمّ فرض اللقاء في القصر الجمهوري بين جنبلاط وإرسلان، برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وحضور الرئيسين برّي والحريري.
بذلك طويت صفحة السجال حول حادثة قبرشمون التي أحيلت إلى المحكمة العسكرية، فعادت الحكومة إلى اجتماعاتها الدورية لمتابعة الوضع الاقتصادي، عقب الاجتماع الطارئ الذي عقد في قصر بعبدا، واتفق فيه الجميع على البدء بتنفيذ الإصلاحات التي وردت في موازنة 2019، واستكمالها في موازنة 2020، للخروج بلبنان من عنق الزجاجة، عبر تعهد كافة الأطراف بتأمين الاستقرار السياسي والهدوء الأمني، فكانت مصالحة بعبدا فاتحة لمصالحات أخرى.
جنبلاط والعهد
لم يكد يمضي أسبوع على مصالحة جنبلاط–إرسلان، التي تنتظر معالجة شاملة للملف الدرزي بمؤسساته، وتحديداً المجلس المذهبي ومشيخة العقل والأوقاف، كما التعيينات، كان رئيس الجمهورية ينتقل إلى المقر الصيفي في بيت الدين، للإقامة به، كما فعل أسلافه من الرؤساء. ومن أجل بث الطمأنينة بين أهل الجبل بأن المصالحة قائمة، ولن تعكّرها أية حادثة أو إشكال، قام جنبلاط بإعداد وفود شعبية للترحيب بالرئيس عون تعزيزاً للمصالحة.
ومن جهته، أقام عون مأدبة غداء عائلية على شرف جنبلاط، لطمأنته بأن العهد لا يستهدفه، بل يعتبره ركيزة في الجبل، وأحد أقطاب السياسة في لبنان، مقراً له بحجمه ووزنه، فمنحت وليمة الغداء زعيم المختارة راحةً نفسية افتقدها منذ وصول الجنرال إلى سدة الرئاسة، بأن زعامته التي أورثها لنجله تيمور لن تُمسّ، كما تمت تهدئه مخاوفه بشأن إمكانية استهدافه من قبل النظام السوري وحلفائه. فكانت النتجية أن أعاد جنبلاط صياغة علاقته بالعهد بعد أن كان قد وصفه سابقاً بـ«الفاشل».
صفر مشاكل
اطمئنان جنبلاط هذا دفعه سريعاً إلى إعادة تموضعاته باعتماد، سياسة «صفر مشاكل» مع الأطراف السياسية، لاسيما المنخرطة في «محور المقاومة»، بعد أن شابت علاقاته معها الحدّة والتوتر، ليس بسبب الموقف من الأزمة السورية التي تمّ تنظيم الخلاف حولها، سواء مع «حزب الله» أو حلفائه لاسيما مَن هم في الطائفة الدرزية، إلا أن جنبلاط كان عندما تأتي إشارات أميركية أو سعودية أو غيرها، ضد المقاومة، كان ينبري إلى تلقفها بالتساؤلات المعتادة، كمثل ما قاله قبل أشهر حول «لبنانية مزارع شبعا»، مما طرح سؤالاً لدى «حزب الله» حول التوقيت في ظل تشديد العقوبات الأميركية على «حزب الله»، وتصاعد التوتر الأميركي–الإيراني. فوضع جنبلاط بذلك، نفسه في مواجهة مع «حزب الله» الذي بادر إلى قطع العلاقة مع جنبلاط الذي سرعان ما تأكد من أن رهانه على السياسة الأميركية، لن يجديه نفعاً، وقد خبر أساليب واشنطن مع السفير الأميركي جيفري فيلتمان في لبنان، الذي شجّعه على قيادة قوى ترفض الوجود السوري، ثم سلاح «حزب الله».
وإذا كان جنبلاط قد ربح المعركة الأولى (الانسحاب السوري) لظروف إقليمية ودولية، فإنه خسر في الثانية، بعد هزيمة إسرائيل في حرب 2006، حيث اعترف زعيم المختارة بانتصار مشروع المقاومة الذي ترسخ داخلياً بعد أحداث 7 أيار 2008، فاضطر جنبلاط للذهاب إلى دمشق لمصالحة الرئيس بشار الأسد، قبل أن ينقلب عليه مجدداً مع محاولة إسقاط النظام السوري عبر ما سمّي بـ«الربيع العربي» عام 2011، فساند جنبلاط ما سمي بـ«الثورة السورية» ليخسر مع مَن خسروا من قوى دولية وإقليمية.
أما داخلياً، فلم تكن النتائج أفضل، فخسر دوره في معركة رئاسة الجمهورية، وهو ما دفعه إلى القول بأنه «محاصر سياسياً».
وبعد التحولات الأخيرة، وبانتظار ما ستؤول إليه أوضاع المنطقة، لاسيما في سوريا التي يخشى رئيس «الاشتراكي» من انتقام دمشق منه، وهو الهاجس الأبرز عنده، وفق نظرية أن آل جنبلاط «يموتون قتلاً». يبدو أن جنبلاط قرّر أن يهادن ويعمل بنظرية «صفر مشاكل»، عبر خفض سقف خطابه السياسي ضد النظام السوري، والانفتاح على بعبدا، وإعادة العلاقة مع «حزب الله».
زمن المصالحات
السلوك الجنبلاطي الجديد، فتح باب المصالحات على مصاريعه، سواء بينه وبين الرئيس عون، الذي كان يخشى من «جبهة معارضة» تقوم ضد عهده محورها جنبلاط ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وأطراف مسيحية أخرى، على أن يتولى جنبلاط التنسيق مع الرئيس برّي الذي لم ترقَ له الفكرة، فيما تحفّظ الرئيس الحريري عليها.
ومع فشل مساعي تشكيل جبهة معارضة، لم يعد أمام جنبلاط، سوى التوجه نحو علاقة مع رئيس الجمهورية في عامه الرئاسي الثالث، وأعطى إشارة مرور، لنجله تيمور للقاء الوزير باسيل، وهو ما تم في اللقلوق، وشكّل مفاجأة لكل القوى السياسية، بمن فيها الحلفاء للطرفين، «القوات اللبنانية» بالنسبة لجنبلاط، والتي كانت تستعد لزيارة رئيسها جعجع إلى المختارة، وكذلك بالنسبة لإرسلان، بعد شهرين من المعارك السياسية مع جنبلاط، الذي بدوره لم يتقبل أنصاره فكرة اللقاء بهذه السهولة بعد كل هذه الحملات والاتهامات المتبادلة. فكان اللقاء نكسة للاشتراكيين، والإرسلانيين على حد سواء، كل منهما من موقعه ومصالحه.
لقاء اللقلوق، تزامن مع اجتماع في عين التينة بين وفدي «حزب الله» و«الاشتراكي»، اللذين أعادا العلاقة بينهما، وقد سبق الاجتماع حضور أمين السر العام في «الحزب الاشتراكي» ظافر ناصر، مهرجاناً لـ«حزب الله» في بنت جبيل، وهو ما أرخى بثقله على الساحة السياسية الداخلية، ليتبين للجميع أن موقف جنبلاط من «حزب الله» قد تبدّل.
الوسطي
زمن المصالحات الجنبلاطية هذا، أثر على علاقته بـ«القوات» التي باتت ترى نفسها أنها في «عزلة سياسية»، إلى حد التفكير بالخروج من الحكومة التي لا يلبي رئيسها مطالبها، بل يساير باسيل على حسابها.
وكان جنبلاط نفسه يشكو من أن باسيل والحريري يتقاسمان المصالح والصفقات، كتعبير عن الجفاء القائم بينه وبين «تيار المستقبل».
مع مجافاته نسبياً لحلفاء الأمس وتقربه من خصومه السابقين، هل يمكن اعتبار أن جنبلاط، عاد إلى موقع الوسطي الذي اختاره منذ العام 2011، أم أنه فعلاً ينأى بنفسه عن المشاكل ليصفّرها؟
يوصف جنبلاط بأنه قارئ بارع للمتغيرات، وأنه يبني عليها مواقفه ومصالحه، ويبدو أن مصلحته في هذه المرحلة باتت أقرب إلى المقاومة.
Leave a Reply