نبيل هيثم – «صدى الوطن»
عبثاً تحاول مملكة آل سعود ان تجد لها مكاناً ومكانة فـي التحولات الاقليمية.
هي فشلت فـي اليمن، وها هي تضطر الى البحث عن حل سياسي مع الحوثيين أنفسهم، لوقف نزيفها الاقتصادي والامني، الذي تسببت به حين اطلقت عملية «عاصفة الحزم» التي تحولت الى «عاصفة وهم»، ومن ثم عملية «اعادة الامل» المبدد برياح التحولات الاقليمية.
وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون مصافحاً رئيس الاستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل خلال مؤتمر ميونيخ الأمني في شباط (فبراير) الماضي. |
فشلت كذلك فـي إيران، حيث لم تنجح دسائسها الاعلامية والسياسية فـي اقناع الأميركيين بتجرّع كأس الاتفاق النووي، وفشلت بعد «السلام النووي»، فـي استدراج الإيرانيين الى مواجهة ديبلوماسية، وربما عسكرية، تعيد عقارب ساعة فـيينا الى ما قبل الرابع عشر من تموز، حين أقدمت على اغتيال الشيخ نمر النمر شنقاً.
فشلت أيضاً فـي سوريا، حين حالت «عاصفة السوخوي» الروسية دون مخططات محمد بن نايف فـي إسقاط جبهات الشمال السوري فـي أيدي تكفـيريي «جبهة النصرة» وأخواتها، فـيما
حال التوافق الأميركي-الروسي النادر بشأن الهدنة السورية دون مغامرة محمد بن سلمان الجديدة، المتمثلة فـي التدخل عسكرياً لإنقاذ
ما تبقى من جبهات فـي أرياف حلب وإدلب واللاذقية.
وعلاوة على كل ما سبق، فشلت فـي أسواق الطاقة، التي تعتبرها ملعبها القديم، حين انقلب سحر الهبوط بالاسعار، والهادف الى خنق ايران وروسيا اقتصادياً، على مشعوذه، حتى صارت المملكة المترفة على تخوم ازمة مالية تدفعها الى الاستدانة الدولية لتغطية النقص فـي الاحتياطيات النقدية!
محاولة للتعويض فـي لبنان
فـي هذا السياق الغريب، يمكن فهم التصعيد الأخير الذي انتهجه حكام مملكة آل سعود، سلمان والمحمدين، ضد «حزب الله»، والذي بدأ فـي سحب هبة المليارات الأربعة للجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي، عقاباً على الحياد الرسمي الايجابي تجاه الأزمة السعودية-الايرانية، والتلويح بإجراءات عقابية ضد اللبنانيين العاملين فـي الخليج.
الهدف الواضح، كان تفجير المناخ اللبناني، الهش أصلاً، عبر تأجيج حالة الاستقطاب المعروفة، والعزف على وتر الفتنة السنية-الشيعية، بما يسهم فـي زيادة الضغوط الداخلية على «حزب الله»، وبذلك تكون السعودية قد حققت انتصاراً، ولو محدوداً يعوّض خيباتها اليمنية والايرانية والسورية… والنفطية.
ولكن ربما فات حكام آل سعود انهم يفتحون معركة مع حزب تمرّس فـي قتال عدوّ مثل اسرائيل، يجمع الصديق والعدو على قدراته العالية فـي التخطيط الاسترايتيجي على المستويات السياسية والعسكرية والامنية، لا بل تمكن من الحاق الهزيمة النكراء به فـي أكثر من محطة تاريخية، لعل أبرزها عدوان تموز العام 2006، وأنه -أي «حزب الله»- لن يجد أية صعوبة فـي احتواء معركة سياسية وديبلوماسية، أو حتى أمنية وعسكرية، يخطط لها فـي قصور اعتادت على مقاربة الاستراتيجيات بعقل بدوي.
ولهذا لم يكن مستغرباً أن يتعامل «حزب الله» بهذا القدر من الهدوء والحزم فـي آن واحد مع زوبعة الفنجان السعودية، التي فشلت سريعاً فـي تحقيق اهدافها التحريضية.
وفـي هذا الاطار، ربما فات أيضاً حكام آل سعود ان تحالفاتهم الاقليمية والدولية ما هي إلا تحالفات مصالح آنية، أو فـي أفضل الأحوال ولاءات استعراضية، اكثر ما يمكن أن تنتجه «عريضة شعبية» لا تستأهل ثمن الحبر الذي كُتبت ووُقعت به.
على هذا الأساس، تحولت الاجراءات السعودية بحق لبنان، عن غير قصد من اتخذ القرارات بشأنها، الى إجراءات بحق الحلفاء الداخليين، لا بحق «حزب الله». ولعل الخطاب للسيد حسن نصرالله، فـي ذكرى اسبوع على استشهاد المقاوم علي فـياض، احتوى على فكرة، لا تتعدى بضع كلمات، تلخص هذا الواقع، وهي التذكير بأن «حزب الله» لم يتسلم يوماً، ولو رصاصة واحدة، من الجيش اللبناني، ما يعني ان الغاء صفقة المليارات الاربعة ليست سوى اجراء عقابي بحق لبنان.
رسم كاريكاتيري نشر على موقع «الإيكونوميست». |
بين لبنان والسودان
وكان واضحاً ان ما قاله السيد حسن نصرالله يتقاطع فـي هذا السياق مع مناخ عام فـي لبنان، حتى فـي صفوف معارضي «حزب الله»، رأى فـي الخطوة السعودية غطرسة بحق الشعب اللبناني بأكمله، وليس بحق شريحة بعينها. وربما هذا ما اسهم، ولو بشكل غير مباشر، فـي خروج زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، وهو من أشد خصوم «حزب الله» وأكثر السياسيين اللبنانيين قرباً من السعودية، بتصريح، مهّد بشكل او بآخر الى تخفـيف الاحتقان، حين تحدث عن استمرار الحوار الوطني بصرف النظر عن الموقف من الحزب، فـي موقف تكرر فـي سياق مختلف من حيث الشكل، لا المضمون، حين عارض وزير الداخلية نهاد المشنوق، المنتمي الى التيار الأزرق ذاته، بيان وزراء الداخلية العرب الذي وصف «حزب الله» بأنه منظمة «إرهابية»، فـي سياق الموجة الثانية من زوبعة الفنجان السعودية، التي اطلقت فـي اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي.
ولعل ما أحرج حلفاء السعودية فـي هذا الخصوص، ما رشح عن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الى السودان، بعد الغاء صفقة المليارات، وتحديداً ما كشف عنه «معهد ستراتفور»، الذي يعد بمثابة وكالة استخبارات خاصة، فـي تقريره الذي حمل عنوان «للصداقة السعودية ثمنها»، بشأن تجيير المليارات الأربعة، مضافاً اليها ملياراً الى السودان.
ومما جاء فـي التقرير، فإن السعودية أدركت أن كلّ أموالها لن تكفـي لإضعاف «حزب الله» وبناء تحالفات فـي بلدٍ متصدّع وضعيف إلى هذا الحدّ. وفـي المقابل، يبدو السودان فـي وضع أفضل للرضوخ لإرادة السعودية، بعدما عملت الرياض والخرطوم على تعزيز علاقاتهما خلال السنوات الماضية، من خلال ضغوط سعوديّة مصريّة إسرائيلية لتقليل اعتماد السودان على المساعدات الإيرانيّة، أفضت الى تقارب سعودي-سوداني، من أبرز نتائجه إسراع الخرطوم الى الانخراط فـي التحالف السعودي ضد اليمن، والتحالف الاسلامي الذي شكله محمد بن سلمان للتدخل فـي سوريا، فضلاص عن القرار السوداني بقطع العلاقات مع الجمهورية الاسلامية (الحليف السابق) بعد إعدام الشيخ نمر النمر واقتحام السفارة والقنصلية السعوديتين فـي طهران ومشهد.
وبصرف النظر عن الاحراج الذي تسببت به الخطوة السعودية المزدوجة (فـي لبنان والسودان) تجاه حلفائها فـي لبنان، وبصرف النظر أيضاً عن التماهي فـي الموقفـين السعودي والاميركي بشأن توصيف «حزب الله»، يبدو أن الغرب، الذي يراقب الوضع اللبناني بالمجهر، قد ادرك سريعاً ان النتيجة المنطقية لما فعلته السعودية هو زيادة نفوذ «حزب الله»، الذي يعتبره الغربيون ذراع إيران فـي لبنان، بما قد يؤدي الى نتائج لا يرغبون فـيها، وتتمثل بشكل خاص فـي كسر التوازن الدقيق فـي موازين القوى اللبنانية، بين معسكري 8 و14 آذار، خصوصاً فـي ظل تقارير صحافـية، وربما استخباراتية، تشي باحتمال كبير فـي ان يؤدي تردي العلاقات اللبنانية-السعودية، فـي شكلها الرسمي، الى فراغ يمكن أن تملأه إيران بسهولة، فـي ظل رغبة الاخيرة فـي توسيع نطاق استثماراتها الاقتصادية، وبالتالي السياسية، بعد الاتفاق النووي.
وهذا ما يفسر التسريبات الأخيرة بشأن الضغوط التي بدأت الولايات المتحدة وفرنسا فـي ممارستها على السعودية للحيلولة دون المضي قدماً فـي مغامرتها الخاسرة.
الى إسرائيل؟
وإذا كان التصعيد السعودي المتمثل بقطع المساعدات المليارية عن الحكومة اللبنانية قد انتهى بفشل ذريع، بالنظر الى عدم تحقيق هدفه الأساسي، خصوصاً بعدما نجح «حزب الله» فـي انتزاع فتيل الأزمة الداخلية، فقد كان واضحاً أن الفصل الثاني من التصعيد، المتمثل بحملة تصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية يحمل فـي طيّاته هدفاً أكثر خطورة.
وليس المقصود بتلك الخطورة قدرة العقوبات السعودية أو الخليجية فـي تقويض قوة «حزب الله» -وهو أمر مستحيل لاسيما أن الحزب لم يتأثر بعقوبات اشد مثل العقوبات الأميركية والأوروبية- وانما ما تعكسه هذه الخطوة من توجه سعودي غير معلن، حتى الآن، فـي تشكيل اصطفاف إقليمي جديد، يكسر المحظورات العربية التقليدية، والمتمثل فـي نقل العلاقات العربية-الاسرائيلية من مرحلة التطبيع (سواء الصريح والخفـي) الى مرحلة التحالف ضد العدو المشترك: المحور الايراني.
وليس تصنيف «حزب الله» منظمة «ارهابية» سوى تكرار للمقولة الاسرائيلية ذاتها، وهو ما يعني، وفقاً للخطة السعودية، جر العرب الى نزع صفة المقاومة عن الحزب، وتحويله الى عصابة اجرامية على غرار «داعش»!
ولعل ما قاله رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد لقائه الاخير مع نائب الرئيس الاميركي جو بايدن فـي القدس المحتلة يشكل كلمة مفتاح لفك شيفرة السياسات السعودية الاخيرة، وابرزها تأكيده على أن «ثمة فرصة كبيرة تتمثل بتعميق العلاقات بين إسرائيل والدول العربية المعتدلة، ما قد يساعدنا فـي وضع أسس ثابتة للسلام والاستقرار».
هكذا تتكشف الشيفرة، وتزول ورقة التوت.. فالاجراءات السعودية الاخيرة لا يمكن بشكل من الاشكال أن تقود الى انتصار، وإنما تهدف بالدرجة الأولى الى البحث عن حليف جديد، فـي إطار وحدة الهدف: محاربة إيران وتقويض كل شكل من أشكال المقاومة.
حتى الآن، ما زالت المعركة فـي بدايتها، وقرار مجلس التعاون الخليجي وبيان وزراء الداخلية العرب ليسا سوى جولة من جولاتها، التي يفترض أن تتجدد فـي الأيام أو الأسابيع أو الأشهر المقبلة، إلا فـي حال تلقى حكام آل سعود الإشارات الآتية من تونس، التي انتفضت قواها السياسية انتصاراً لـ«حزب الله» فـي وجه السياسات السعودية… ومن مصر، التي ترافقت الهوجة السعودية مع حادثة غير مسبوقة، تمثلت فـي اسقاط عضوية نائب برلماني بسبب لقائه السفـير الاسرائيلي.
Leave a Reply