لست أدري لماذا وجد الشيخ محمد علي إلهي من الضروري أن يعتذر عن زيارته إلى إسرائيل التي وصفها بأنها ذات اليوم الواحد فقط، وكأن قصر الزيارة يشفع حدوثها المسيء لمشاعر العرب والمسلمين، فالذي يشرب نقطة من الخمر كالذي يشرب كل الخمر! ولا أدري ما الذي دفعه -رغم الإعتذار- للدفاع عن زيارته غير الموفقة لأنه، باعترافه هو نفسه، قد عاتبه على ذلك شخصٌ واحدٌ فقط، فالموسم هو موسم “النأي بالنفس” عن كل شيء (الذي ابتكره حوت المال نجيب ميقاتي)، حتى عن القيم المتعارف عليها. فبسحر ساحر لم تذكر وسيلة إعلامية أو لسانية (حتى تركيب المَقلة توقف) فعلة الشيخ محمد علي إلهي، اللهم إلا موقف مبدأي علني إتخذه، كعادته في المواقف الجريئة، سماحة العلامة مفتي ميشيغن الجعفري السيد إبراهيم صالح. وحتى لا أظلم أحداً ربما عارض بعض المشايخ زيارة إلهي في “سرائر أنفسهم” و”خائنة أعينهم”!
إذاً، فتح الشيخ محمد علي إلهي على نفسه “فتوحات” كما يقول المثل العامي، مما إستوجب رداً بعد أن خرق المحظور لأننا تهمنا مصلحة الشيخ ونربأ به عن هذه الخطيئة بحق شعبنا العاملي أولاً وبحق نفسه وتاريخه ثانياً. لكن محاولة الشيخ إلهي تبرير زيارته إلى القدس المحتلة كانت عذراً أقبح من ذنب! ففي عنوان مقالة نشرتها له “صدى الوطن” الأسبوع الماضي إدعى أن زيارة السجين لا تعني زيارة السجان! لكن غاب عنه أن زيارة السجين في أرضٍ محتلة مغتصبة، ولو كانت طاهرة ومقدسة، لا تعني زيارة السجان المجرم فحسب بل تشكل إعترفاً مجانياً به! وهل يمكن أن تدخل “دومرة” إلى فلسطين المحتلة من دون علم قوات الإحتلال الصهيوني التي تمنح الإذن والتراخيص؟
في إحدى تبريراته يقول الشيخ إلهي أن نظام الشاه المخلوع قد اعتقله وهو ابن العشرين بسبب مناهضته لإسرائيل والظلم الذي ألحقته بالشعب الفلسطيني. آجره الله مع الآلاف من المناضلين الإيرانيين أمثاله الذين ظلمهم “السافاك” وحتى حزب “تودة” الشيوعي ومسعود رجوي وغيرهم. لكن الشيخ إلهي أراد زيارة فلسطين المحتلة اليوم لكي “يعاين عن قرب ويعبر عن تعاطفه وتضامنه” مع الشعب المظلوم. فإذا كان ابن العشرين يعلم حقيقة بربرية اسرائيل وهمجيتها في تلك السن المبكرة ويعي خطر الصهيونية، فما جدوى هذه “المعاينة” عن قرب الآن بعدما خطه الشيب إذاً؟ خصوصاً وإن “المعاينة” سوف تثير الجدل وتدوس على كرامة وجراح مئات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين والأردنيين والعرب عموماً، من المسلمين والمسيحيين الذين بطشت بهم دولة الإجرام والإرهاب الصهيوني. ثم ما هذه المعزوفة بالتضامن مع الشعب الفلسطيني عن كثب؟ هل هذا “الكثب” ضروري وهل تركت إسرائيل زيادة لمستزيد عن وحشيتها التي رأيناها عن بعد، على كل المستويات وعبر كل الوسائل، طيلة ٦٤ عاماً؟ لماذا لا نتضامن مع الشعب الفلسطيني محافظين، في نفس الوقت، على مقاطعة الكيان الصهيوني بكافة اشكالها؟ هذه المقاطعة كانت أضعف الإيمان لكنها كانت فعالة حتى إنفرط عقدها وبدأت تنهمر علينا الويلات! ثم كيف يشعر المرء بأنه أكثر عداءاً للصهيونية من أي وقتٍ مضى، كما قال الشيخ إلهي؟ وهل العداء للصهيونية “درجات”؟ هل هناك، مثلاً، عداءٌ أقل وعداءٌ وسط للصهيونية خصوصاً بعد أن خبرنا تاريخها وعنصريتها وممارستها في سن الشباب؟
وقول إلهي أنه هدف من الزيارة نقل معاناة الفلسطينيين إلى الشعب الأميركي يثير الحنق والغضب أكثر من حقيقة الزيارة! فمع احترامنا له ولقدرته، فإن أكبر دولة عربية وهي مصر، بكل إمكاناتها وحجمها، لم تتمكن من نقل معاناه الشعب الفلسطيني حيال الأخطبوط الإعلامي الإسرائيلي القابض على الرأي العام العالمي وبالأخص الأميركي. وأنور السادات، الذي زار اسرائيل عام ١٩٧٧ وألحق أكبر الضرر بالقضية الفلسطينية بسبب خرقه للجدار النفسي مع العدو، لم يحدث ثغرة في جدار مناهضة إسرائيل ومناصرة الشعب الفلسطيني رغم إتباعه الذيلي المذل لأميركا. ثم كيف سينقل إلهي معاناة أهل فلسطين إلى أميركا (بعد الاطلاع على شؤونهم ليوم واحد أوحد فقط!) وبأية وسيلة إعلامية جماهيرية؟
لا داعي للبحث في سبب الزيارة، مهما إعتقد الشيخ إلهي بنبل الهدف، لأن التعامل مع إسرائيل حرام كما أفتى الإمام القائد السيد موسى الصدر، ومجرد المصافحة إعتراف كما قال الشيخ الشهيد راغب حرب، ولو ظن “الأئمة والمشاركون في مؤتمر إسطنبول” عكس ذلك. فمع تبجيلنا لهم ولرأيهم لماذا لم يرافقوه في رحلته؟ ثم من هم هؤلاء “الأئمة” لتتم مشورتهم، وهل هم أهل خبرة ومشورة؟ ثم هنا في ميشيغن يوجد مجلس علماء، فهل وافق السادة العلماء على الزيارة وهل عرضت عليهم وهل تمت استشارتهم أصلاً؟ أنا لست عالم دين ولا أدعي ذلك، ولكن الرواية التي ذكرها “أئمة إسطنبول” للشيخ إلهي في معرض المشورة، إن صحت، فهي حول التفريق بين البر والإثم لا بين إعطاء براءة ذمة لإحتلال مجرم (ولو لم نطلب منه تأشيرة دخول أو نعقد لقاءات مع “مسؤولين” حسب تعبيره) يجب إستمرار مقاطعته بكل الأشكال كما قوطع النظام العنصري في جنوب إفريقيا مما أدى إلى سقوطه.
هل يهبط الإنسان في القدس بالمظلة من دون النزول في مطار أو العبور على حواجز إسرائيلية؟
تذكرني قصة “وابصة” بحديث النخيل الذي يطعن بالرسول الأعظم. إذ كيف يفتي الرسول الكريم بما يمليه القلب من دون الرجوع إليه نفسه وهو كان موجوداً، وهو معلم البشرية، أو إلى القرآن وسنته وعترته من بعده؟ فهل أفتى الرسول، حاشاه، أن القلب أصبح مصدر التشريع؟
معظم علماء السنة (حتى يوسف القرضاوي ما غيره) حرّموا زيارة القدس تحت الإحتلال، كما حرّمها كل علماء الشيعة قاطبةً ونتحدى بذكر إسم عالم دين شيعي واحد حلل الزيارة لإسرائيل! كذلك المرحوم سيادة الأنبا شنودة، بابا الأقباط في مصر، منع زيارة الحجاج المسيحيين إلى باب المقدس ما دامت القدس تحت الإحتلال. ثم أن التجربة أثبتت أن في إسرائيل لايوجد صهيوني معتدل وآخر متطرف، فالعرب عندهم سواسية ويستحقون الموت، وكل العملية هي توزيع أدوار. فكم راهن البعض على حزب “العمل” الإسرائيلي “المعتدل”، لكن معظم المجازر الإرهابية ومصائب العرب كانت من صنع هذا الحزب القاتل وآخرها مجزرتا “قانا”. أما بالنسبة للحاخاميين المعارضين “لدولة” إسرائيل على أساس ديني فقط مثل “الكابالاه” و”ناطوري كارتا” وغيرهما، فلن يقدموا ولن يؤخروا شيئاً لأن الكيان الصهيوني لا يرد على أحد ولا حتى على ربيبته أميركا عندما تكون مصلحته “في الدق”!
أخيراً، أوحى الشيخ إلهي أن زيارته كانت مرتجلة وحصلت الدعوة بينما كان في إسطنبول، لكن الوقائع تظهر أنه كان يحضر لها وهو في ديربورن بدليل أنه طلب من بعض الأشخاص مرافقته، وهذا البعض ما زال حياً يرزق. كما أن أحد رجال الدين في أحد المراكز ممن التقى بهم تحضيراً للزيارة، حذره من الإقدام عليها مشيراً إلى مسقط رأسه فكان جوابه “لا يهم”.
Leave a Reply