طلبت إلى وزير الإعلام في جمهورية جيبوتي أن يرتب لي موعدا مع السيد الرئيس الحاج حسن غوليد أبتيدون رئيس جمهورية جيبوتي وهو المناضل والمكافح العنيد والمقاتل الأول لقوات الإحتلال الفرنسي الذي دام في جيبوتي زمنا طويلا. وعدني الوزير بتحقيق هذه الرغبة وفي وقتها المناسب.لقد قابلت رئيس الوزراء بركات قره الذي كان رفيق قتال وسلاح لرئيس الجمهورية، ورفيق الدرب الكفاحي الطويل. ثم زرت وزير خارجيتها القانوني الضليع الأستاذ مؤمن باهدون خريج جامعات حقوقية عليا في باريس وغيرهم العديد من الوزراء والسياسيين وهم أركان الجمهورية الفتية، والكل كان قد أسهم إسهاماً مشرفاً من أجل أن يتم التحرير وأن يتحقق وأن تنفلت الأيدي من أية سلاسل وتنعتق الأعناق من قيود الذل والإسترقاق.ولقد كانت الغاية من كل هذه المقابلات أن نقدم للأحرار والمناضلين وللشعوب المكافحة من أجل تحرير أوطانهم الساعية لتحطيم قيودها، ثم الدفع بها وبشعوبها نحو سرادق العزة والكمال، أن نقدم لهؤلاء جميعاً أشرف الصور النضالية وأنقاها عن التضحيات وعظمتها التي تقدم قرباناً مقدساً على مذبح حرية الوطن وإستقلاله وسيادته وإنعتاقه من قيود الإحتلال والخلاص نهائياً من كل محتل أثيم.لقد خرجت جيبوتي من معسكر الذل والعبودية، بل خرجت إلى الدنيا الواسعة، حاملة أكثر من رسالة إنسانية تتمنى لو أنها تستطيع أن تؤديها بكل أمانة ووفاء خدمة للشعب الجيبوتي العربي المسلم وأن تتمكن من رفع مستوى الشرائح البشرية الإنسانية المكونة من أعراق عربية وأفريقية مسلمة لم تبخل هذه الشرائح على الوطن من تقديم كل غالٍ ورخيص، بل قدمت لهذا الوطن مختلف التضحيات ووسائل الدعم. لذا رأينا هذه الدولة الفتية تبدأ مسيرتها الإنمائية والتربوية والثقافية وتحث نفسها وكافة الكادرات الوظيفية وكل أجهزتها لكسب عامل الوقت والحرص عليه كي لا يضيع الوقت هباءً منثوراً سيما والمدة التي خضعت فيها جيبوتي لهيمنة إستعمارية مرفوضة لم يكن من الممكن أن تحقق فيها أية إنجازات ضرورية وهامة إلا نادرا.فمن خلال هذه المقابلات سعيت للتعرف إلى ما تم في جيبوتي من إنجازات، وإن كانت متواضعة إلا أنها أشارت على أن القافلة بدأت تسير سيراً حثيثاً. ومما لا شك فيه أن مقابلة الرئيس الجيبوتي ستكون حتما هي النبع الصافي الغزير بعطاءاته وذلك لإستكمال بقية عناصر الصورة المشرقة التي أسعى لتقديمها للرأي العام.وبعد أقل من 24 ساعة أبلغني الصديق وزير الإعلام الجيبوتي أنه تمّ تحديد الموعد لي مع السيد رئيس الجمهورية وذلك في الساعة 10 من صباح اليوم التالي.
التوجه إلى مبنى قصر الرئاسةوحينما توجهت إلى مبنى القصر الجمهوري المطل على البحر، لمقابلة السيد الرئيس الحاج حسن غوليد أبتيدون أحسست بمشاعر الفرح تغمر نفسي من شرقها إلى غربها، كيف لا، ومقابلة الرئيس هي قمة المقابلات وهي التي ستتوج نشاطاتي الصحافية بأكاليل النجاح والتوفيق.أنا الآن في القاعة الرئيسية للقصر وهي المؤدية إلى ديوان السيد الرئيس. إستقبلني المسؤول والمختص بمواعيد الرئيس ومقابلاته فأمهلني لحظات، ثم عاد ليقول لي تفضل، وسار أمامي بخطوات عسكرية حتى باب ديوان السيد رئيس الجمهورية.
مع الرئيس غوليدأنا الآن في ديوان رئيس الجمهورية ومكتبه الواسع العريض، وحينما دخلت رأيت الرئيس واقفاً ينتظر وصولي، فتقدمت من السيد الرئيس مصافحاً، وقد رحب بي ترحيباً حاراً أذهب عني بعض التوتر، وقد كان خفيفاً، كما أدخل في نفسي شعور الفرح والرضى التام.جلس السيد الرئيس، ثم قال لي تفضل. وهذا إن دل على أمر، فإنه يدل بوضوح على خلق عالٍ وتواضع إنساني كريم، لذا جلست، ووضعت ما كان بين يدي من أجندة صغيرة على الطاولة كنت قد سجلت فيها بعض أفكاري التي تدور حول الأسئلة التي سأطرحها على فخامة الرئيس.سألني السيد الرئيس قائلا: كيف هي الحال بلبنان الشقيق، يا علي؟ قلت: الحالة طيبة يا فخامة الرئيس لولا بعض الأزمات المعيشية التي تجعل الشعب دائم التذمر ودائم الشكوى والإمتعاض ودائم الإعتراض والإحتجاج على عدم تنفيذ الوعود وتحقيق المشاريع المفيدة، تلك الوعود التي أغدقتها الحكومة ومنذ تشكيلها، ووعدت بتحقيقها غير أن شيئاً من ذلك كله لم يتحقق ولا يزال الشعب ينتظر ويئن ويشكو ويتذمر.وكما تعلمون فخامتكم أن لبنان قد خرج للتو من حرب أهلية ومعارك دامية ومدمرة كلفته الكثير من الخسائر في الأرواح والأموال والممتلكات، والكثير من الدماء التي سالت وبلا حساب، ناهيك عن التمزق الذي أصيب به الشعب اللبناني وما أصاب لبنان الوطن من خراب ودمار.سألني السيد الرئيس، منذ متى وأنت في جيبوتي يا علي؟ قلت: منذ أسبوع واحد فخامة الرئيس.قال الرئيس: وكيف وجدت البلاد وما الذي أثار إهتمامك؟ قلت: وجدتها تنعم برخاء وإستقرار، والكل ينعم بالخير الوفير. بفضل رعايتكم الحكيمة للشعب الجيبوتي وإهتمامكم سيدي بقضاياه المعيشية، وتحقيقكم لمعظم ما يحتاج إليه الشعب من مشروعات إنمائية، وإقتصادية، والذي لفت إهتمامي إهتمامكم الأبوي بمشروعات التربية والتعليم، ونشر العلم والمعرفة وتطبيق نظام التعليم المجاني في البلاد.السيد الرئيس لو تسمحون لي فخامتكم بطرح أسئلة صحافية، راجياً أن يتسع صدركم الكريم للإجابة عليها.قال السيد الرئيس: لا مانع إطلاقاً. ولكن قبل أن تبدأ بطرح الأسئلة، أود أن أسألك سؤالا واحداً فقط، فهل لي هنا قاطعت فخامة الرئيس قائلاً لسيادته: تفضل فخامتكم، وكلي أذان صاغية.قال السيد الرئيس: لقد أمضيت سنوات من عمري لاجئاً سياسياً متنقلا من بلد إلى آخر، كما أمضيت في ربوع الشقيقة سوريا عدة سنوات كنت خلالها لاجئاً سياسيا فيها، هرباً من الفرنسيين ومن مطاردتهم لي ولرفاقي في السلاح، يوم كنا نقاتل ونهاجم ونحارب فرنسا وقواتها العسكرية المتواجدة في جيبوتي، بعد أن كبدنا قواتها المزودة بمختلف أنواع الأسلحة بأكثر من خسارة موجهين لتلك القوات الفرنسية الغازية يومئذ، أكثر من ضربة موجعة داخل جيبوتي وخارجها.هنا، تفضل السيد الرئيس وقدم لي علبة سكاير فتناولت منها سيكارة، وتناول فخامته سيكارته ثم أشعل ولاعته، وأشعل لي السيكارة كما أشعل لنفسه سيكارته أيضا.شكرت الرئيس على ذلك، وإن كنت لا أدخن، إلا أنني دخنت هذه السيكارة ونفثت دخانها في جو الديوان الرئاسي، كيف تريدني ألا أدخن وقد قُدمت لي هذه السيكارة من فخامة رئيس جمهورية جيبوتي، وشكرت فخامته أكثر من مرة.أكمل السيد الرئيس حديثه قائلاً: وخلال إقامتي في دمشق، كنت أتشوق وفي كثير من الأحيان أن أقوم بزيارة للبنان الحبيب، لأنني لم يسبق لي أن زرته يوماً، وإنما سمعت عنه الكثير الكثير الأمر الذي حدا بي أن أقرر زيارة هذا البلد الجميل شعبا وأرضا وسماء وبحرا وصيفاً وشتاءً وربيعاً، لذا رأيتني أتوجه من دمشق إلى بيروت، وقد رافقني أحد الرفاق – رفاق الكفاح من أجل تحرير الوطن – وعندما وصلنا إلى (ظهر البيدر) التفت يميناً ويساراً وفي أكثر من إتجاه فما تمالكت نفسي إلا أن أقول: ما أجملك يا لبنان وما أحلى سهولك ومراعيك، وما أعذب مياهك يا لبنان. وما أنقى هوائك وأي سحر هذا الذي أراه هنا في هذا الجزء من الجنة..
السؤال القذيفةوقال فخامة الرئيس: وما شاهدته عيناي ونحن في الطريق إلى بيروت عبر جبال لبنان ومرتفعاته وأمامنا سهول البقاع، وأمامنا أيضا الكروم والبساتين والفواكه وكذلك الحدائق الغناء والورود والأزهار والجداول والمياه الرقراقة ومياه نهر البردوني والإستراحات التي شاهدناها على طوال الطريق، وكررت قولي أي سحر فيك يا لبنان.
هنا استمر السيد رئيس الجمهورية يتغنى بجمال لبنان وحلاوة وعذوبة كل ما فيه، حتى حينما رأى أكثر من قطيع للأغنام والمواشي وهي ترعى، وخلفها راعيها يحفظها من كل أذى سبح ساعتئذ بحمد ربه وشكر لله فخامة الرئيس، عطفه وكرمه بالنسبة لجميع عباد الله الذين لا يزالون حتى بأنعم الله يكفرون. هنا قال السيد الرئيس مخاطباً ضيفه الصحافي علي عبود: تأخذ شاي أم قهوة يا علي؟ قلت للسيد الرئيس: ما تأمر به فخامتكم نتناوله.أثناء الحديث كله، كان هناك على مقربة منا شاباً منتصباً كالمارد أو كالرمح، فهو ليس جندياً، بل هو أحد موظفي رئاسة الجمهورية أمر السيد الرئيس بإحضار القهوة والشاي معاً، تاركاً لي الحرية اختيار ما أحب وما أريد. تناولت القهوة، أكثر من مرة، وبللت عروقي وفمي وشكرت للرئيس كرمه وعاطفته الكريمة. ثم طرح عليّ السيد الرئيس سؤالا فوجئت بمضمونه وصراحته حيث قال: يا علي، أنتم كلبنانيين هل تعاقدتهم مع الشياطين ضد وطنكم وضد الشعب والأرض والبشر والحجر والأرض والسماء؟أحسست بصاعقة تضرب كياني وتهزني هزاً، فماذا يمكن أن أجيب السيد الرئيس على سؤاله هذا الذي كان بالنسبة لي كقنبلة انفجرت وأصمت أذناي وأفقدتني القدرة على الكلام، وكدت أن أفقد القدرة على متابعة الفهم والإستيعاب، إلا أنني تمالكت نفسي وبقيت صامتا لأستمع إلى بقية كلام السيد الرئيس.وقال: أنتم تمتلكون قسماً من الجنة، ولديكم الماء والخضرة والوجه الحسن، ولديكم كل ما يطمح أن يمتلكه المرء من الضروريات والكماليات، ولديكم العلم والنور والمعرفة، والجامعات والكليات، ولديكم البحر والنهر والجداول الرقراقة، والمياه العذبة، وكل ما خلقه الله من أنواع مختفلة من الفواكه والثمار، ولديكم الصحافة الحرة ذات الألوان والإتجاهات المتعددة، ونسبة المتعلمين لديكم هي أعلى نسبة في الوطن العربي، ولديكم النظام البرلماني، وتتمتعون بهامش عريض من الحرية في القول والحركة والعمل ولديكم حرية تحرك رؤوس الأموال التي تدخل وتخرج دون حسيب أو رقيب، وبلدكم ينعم بثقة عالمية ودولية ومشاريع الإستثمار تأتيكم من كل حدب وصوب، فماذا تريدون بعدذ لك كله، وعلى ماذا تبحثون، وعلى ما تتقاتلون ولماذا تضربون بعضكم بعضاً بشتى أنواع القذائف والقنابل وتقصفون منازلكم بمختلف أنواع المدفعيات القصيرة والطويلة، دون شفقة أو رحمة، وتغتالون بعضكم بعضا. ولماذا أنتم تختلفون دئماً وأبدا، ولا تتفقون؟ كان لا بد لي من أن أجيب السيد الرئيس إجابة صريحة على سؤاله هذا الصريح، وقد أجبته على سؤاله الجريء الذي هز كياني، وكان جوابي هو التالي.. البقية تأتي في حلقة قادمة بإذن الله.
Leave a Reply