كنت قد ذكرت الكثير من المعلومات عن دولة جيبوتي التي كانت تحمل اسم «الصومال الفرنسي» وظلت تعرف بهذا الاسم زمناً طويلاً حتى قيض الله لهذه الدولة ان تخرج من تحت عباءة الهيمنة الفرنسية، بعد اجراء استفتاء شعبي خرجت منه بنتائج وطنية مشرفة.
وشرحت كيف انها نالت استقلالها بعد انفصالها عن فرنسا وتحررها من كل قيد استعماري بغيض ولو كان قيداً من الذهب الرنان، فهو قيد يدمي الايدي والارجل والرقاب بعد ان يمزق كرامة الشعب شر تمزيق.
وقد اتيحت لي اكثر من فرصة جيدة تمكنت خلالها من الالتقاء بالعديد من مسؤولي هذه الدولة الفتية بدءاً بفخامة رئيس الجمهورية الجيبوتية الذي استقبلني في مكتبه بقصر الرئاسة ومروراً برئيس الوزراء وبالعديد من الوزراء الحاليين والسابقين وفي طليعتهم الوزير السابق اسماعيل بن علي الذي تولى الوزارة فترة من الزمن ليخرج منها وليتعاطى فيما بعد التجارة الواسعة العريضة..
وبالاضافة الى السياسيين الذين كنت ازورهم واتحدث اليهم ويتحدثون اليّ عن امور عامة، ودعماً يواجهونه من متاعب في مهماتهم المتعلقة بتسيير شؤون البلاد والعباد، اولئك الذين عرفتهم عن كثب ومنهم رجال الدين الاسلامي الحنيف، وفي مقدمتهم قاضي القضاة في جيبوتي الذي دعاني لتناول طعام الغداء اكثر من مرة في منزله العامر الذي لم يكن ليخلو من اكثر من ضيف عزيز.
لذا استطيع القول ان الفترة التي امضيتها في جيبتوتي كانت فترة كفيلة كي يتوفر لدي كماً كبيراً من التحقيقات الصحفية. التي ساعدتني على تسجيل اكثر من حديث مع عدد من المسؤولين لدرجة انني بت ملماً في كثير من الامور التي لا مجال لنشرها الآن.
ومن الشخصيات السياسية والدينية التي عرفتها جيداً السلطان الزمني والديني لقبائل العفار، اكبر القبائل الموجودة في دول القرن الافريقي وشرق كالسودان واثيوبيا، واريتيريا والصومال وكينيا هو السلطان علي بن مراح بن حنفري آل ايداحيس الذي كان سلطاناً لسلطنة العفار المتمتعة باستقلال ذاتي ضمن حدود اثيوبيا السياسية التي رعت هذه السلطنة واعترفت بسلطاتها الدينية والمدنية واجازت دولة الحبشة يومئذ للسلطان علي بن مراح ان يدير دفة السلطنة شرط مراعاة واحترام القواعد السياسية والاصول المتعارف عليها.
في ذلك الزمن، حيث كان يومذاك نظام الامبراطور هيلاسيلاسي واركان حكمه وقياداته العسكرية والسياسية قائماً والذي انهار تحت ضربات الانقلاب العسكري الشيوعي بزعامة الجنرال منغستو هيلا مريام الذي اعتقل الامبراطور المسن هيلا سلاسي. كما اعتقل الشبل الصغير الذي كان هيلاسلاسي يرعاه بحنان وعطف كبيرين، ثم سجنهما معاً، ولم يفترقا الا حينما تقرر اعدام الامبراطور العجوز، واخلاء سبيل الشبل المسكين.
وبعد ان انهار نظام الامبراطور وانهارت معه جميع قواعهد وقياداته وتمت السيطرة تماماً وامسكت الحركة الانقلابية بزمام الامور ومقاليد الحكم في الحبشة واطبقت القبضة الشيوعية الحديدية حول رقاب العباد واحكمت السيطرة على جميع مرافق الدولة وخضعت الحبشة كلها للحكم الجديد، لذا كان اول من هرب من الحبشة هو السلطان علي بن مراح حنفري آل أيداحيس كما هرب جميع افراد سلطان سلطنة العفار، كما هرب معه جميع افراد عائلته ووزرائه خوفاً من الوقوع رهينة او رهائن في قبضة الانقلابيين الحمر الذين هدموا المساجد واحرقوا الكتب الدينية المقدسة كلها.
لقد قابلت هذا السلطان الهارب من سلطنته الواقعة ضمن الحدود السياسية لدولة الحبشة ليستقر في جيبوتي حيث منح حق اللجوء السياسي هو وجميع من كان معه من الهاربين.
سنفرد حلقة خاصة عن السلطان وسلطنته وقضية سلطنة العفار، ونوضح كيف اعلنت الثورة ضد هذا الوجود الشيوعي في الحبشة بعد احتلالها، وكيف ان هذه الثورة اعلنت من جيبوتي التي منحته حق اللجوء ووفرت له الحماية التامة كقائد للثورة.
سأدع الحديث عن ذلك كله، الى حلقة قادمة لاعود كي اتحدث عن جيبوتي، وعن تفاصيل مقابلتي لفخامة رئيس الجمهورية فيها الذي وقبل ان اطرح عليه الى سؤال وجه اليّ سؤالاً صريحاً لم اسمعه من قبل اطلاقاً.. ولن اكرره مرة ثانية اختصاراً للشرح والتفصيل.
قال لي الرئيس: بعد ان طرحت عليك هذا السؤال، انا الآن على استعداد تام لسماع ما لديك من اسئلة.. تفضل.
قلت لفخامته جواباً على سؤالك ذاك الذي هزّ بدني، وكادت الارض ان تميد بي لما تضمنه من صراحة بلا حدود. فقلت: يتمتع الشعب اللبناني بحرية ذات هامش عريض.. وعريض جداً.
حرية لا في الحركة والتنقل وحسب، وانما حرية في ان يقول ما يشاء.. وان يفكر كيفما يريد، وان يعبر عن كل ما تختلج به نفسه وما تتفاعل به تلك النفس من مشاعر واحاسيس، فهو يمتلك الحربة التامة في قول كل ما يريد ان يقوله وفي اية ساعة يشاء واذ ينفرد هذا الشعب بالتمتع بهكذا حرية غير منقوصة، فهو لا يجيز لنفسه ان يتخطى الحدود التي رسمها له الدستور والتي وفرتها له القوانين والنصوص.
لذا رأينا الشعب اللبناني، يلجأ الى جميع الوسائل المشروعة التي يمكن لها ان تحمل صرخاته وصيحاته واستنكاراته وطلباته كالمنابر ووسائل الاعلام كالصحافة والاذاعة والفضائيات ومنابر المساجد والكنائس والى كل وسيلة يمكن لها ان تساعده على اسماع صوته الى العالم كله، دون خوف او وجل.. معترضاً اشد الاعتراض على كل امر لا يرى فيه الضمان الاكبر لحفظ سيادته وكرامته وآدميته وحفظ حقوقه الانسانية التي نصت على تحقيقها والمحافظة عليها كل القوانين المعمول بها حتى اليوم. لذلك نرى ان ما يريده هذا الشعب ويتمناه هو ان يرسي الاسس المتينة، ويضع القواعد الرئيسية الصلبة التي تكفل له حياة عزيزة وكريمة، وهو على قناعة تامة بأن كل خطوة يخطوها انما تنبع من اعماق قلبه ونفسه، غير متبع اية وسائل ملتوية وغير مشروعة، وهذه كلها بالطبع غير مجاز لها ان تخضع الا لما يريده تحقيقه من آمال كبرى وطموحات عريضة تلتقي دائماً مع المساعي النبيلة التي تدعو الجميع الى حفظ لبنان، وحفظ سيادته، والمحافظة على جميع المكاسب التي حققها هذا الشعب من اجل ان يبقى لبنان حراً سيداً وكريماً وغير مرتهن لشيطان او لانسان..
فهو وطن حر يا سيدي الرئيس، وسيبقى حراً ملتزماً بجميع الاتفاقيات التي اكدت للعموم بانه سيظل امام الدنيا كلها كما هو حراً وسيداً ومستقلاً رغم كل العواصف الهوجاء.. التي عصفت بكيانه ولا تزال، لكنه سيظل صامداً كأبي الهول تماماً..
واحب ان اؤكد لفخامتكم سيدي الرئيس ان شعب لبنان المكافح دائماً من اجل سيادته وكرامته وعلاقاته الطيبة مع جميع الدول الشقيقة والصديقة على حد سواء، وبالرغم من الاحداث التي مرت به ومر بها، فإن هذا الشعب يا سيدي الرئيس يؤكد بقوة وشجاعة بأنه غير متعاقد لامع الانس ولا مع الشياطين ولا حتى مع الجن.. وما يجري بداخله من احداث داخلية فهي ليست الاولى ولن تكون الاخيرة … وقد حدثنا التاريخ القديم والحديث عن الحروب الاهلية التي نشبت بين ابناء الوطن الواحد كفرنسا مثلاً بين الكاثوليك والبروتستانت. وكذلك في بلجيكا بين الفلمنغ وبقية الاعراق، وايضاً وحتى اليوم بين ابناء الشعب الايرلندي الذي لم يوفر الاجنة وهي في بطون امهاتهم فهم ابناء وطن واحد، يحاربون بعضهم البعض وهم يبقرون بطون النساء بعد ذبحهن ويذبحون الاجنة في بطون الامهات.. كما روى لنا التاريخ ان الاقتتال الطائفي والمذهبي والقبلي، والمعارك الدامية التي قامت بين القبائل العربية في بطن الجزيرة العربية لم ترحم المذابح بشرا ولا تعرف حيواناً ولا شجراً. لذلك نقول ان ما جرى في لبنان وما يجري لم يكن الاعصار الاول ولن يكون الاخير.. بل ما كان كل ذلك كله سوى جزءً من اعصار هائل سيضرب اجزاءً هامة من الكرة الارضية شئنا ام أبينا..
وفيما كنت اتحدث مع الرئيس ابتيدون، كنت ارى فخامته وكيف انه يستمع الى ما اقوله بكل جوارحه هنا وجدتها مناسبة لاقول للسيد الرئيس.
قلت لفخامة الرئيس: حاربتم فرنسا وجيوشها.. وتكبدتم الخسائر الجسيمة في الرجال والعتاد.. وطاردتكم قواتها للقبض عليكم او لقتلكم وهذا اقل ما كانت تريده فرنسا.. كيف انقلبت الامور؟ وما الذي مكنكم وانتم لا تملكون ما تملكه فرنسا الدولة المهيمنة عليكم وعلى اجزاء كثيرة من الصومال الفرنسي، وما الذي جعلكم تفرضون على فرنسا نصراً مؤزراً يا ترى؟؟
قال السيد الرئيس: صحيح، نحن لم نكن نملك ما تملكه فرنسا من جيش لنواجه به قوات فرنسا العسكرية.. لكننا استطعنا ان نحقق استقلال جيبوتي، بقوة ايماننا وبوحدتنا، ووحدة الرأي، والموقف الجاد الصلب. ووقوف الشعب الجيبوتي برمته الذي لم يبخل على الالاف من رجال المقاومة التي تصدت للعمليات العسكرية الفرنسية.
فهو لم يبخل على المقاومة الوطنية الباسلة من تقديم كل عون ودعم لقواتنا التي كبدت قوات فرنسا الخسائر الفادحة في العتاد والرجال.
وبالنسبة للقبائل فقد كانت جميع القبائل داعمة لنا. بل كان لها اكثر من موقف قوي وفاعل اكد لفرنسا اننا جميعاً يداً واحداً ورأياً واحداً وكلنا في خندق واحد..
قلت: فخامة الرئيس: ماذا كان دور دول الجوار في القرن الإفريقي قال فخامته: كان دوراً مشرفاً .
وماذا عن الاحزاب؟
وماذاكان دور الاحزاب التي كانت قد تكونت سراً واخذت تعمل في الخفاء دعماً للمقاومة الوطنية الجيبوتية وتأييداً لها.
قال: ان اولئك الذين كانوا يعملون في السر دعماً للمقاومة، انما هم ابناء هذا الوطن الشرفاء. وهم ما كانوا يقومون بهذه الاعمال البطولية، الا لانهم وطنيون شرفاء اسهموا اسهاماً مشرفاً في القيام بادوار بطولية دفاعاً عن الوطن وعن الشعب وعن مصالح العباد. بل دفاعاً عن الحق والعدل والسيادة والاستقلال.
ماذا كان دور المعارضة؟
قلت لفخامته: وهل كان للمعارضة اي دور يذكر خلال الفترة النضالية التي حفلت بالعديد من قصص البطولة الوطنية قال فخامته: لم يتخلف احداِ من المواطنين عن المشاركة في الدفاع عن كرامة الوطن وسيادته.
أين كان الدعم العربي؟
وماذا تقول يا فخامة الرئيس عن الدعم العربي، هل قام بدوره المشرف ام ان هذا الدعم واهله كانوا يغطون في سبات عميق..
قال ابداً.. لقد قدمت لنا بعض الدول العربية الشقيقة القريبة منا والبعيدة دعماً كان لتقديمه لنا – وفي نفوسنا اعظم الاثر.. لا نزال نحفظه لهم حتى اليوم وماذا عن الدعم الافريقي يا فخامة الرئيس؟ قال: تربطنا بدول الجوار في القرن الافريقي امتن العلاقات الاخوية واقواها.. فقضينا كانت قضيتهم!!
وماذا عن العلاقات بين جيبوتي والدول العربية ورؤسائها هي علاقات متينة وجيدة ام انها علاقات باردة وليس فيها اية حرارة تذكر؟
قال: تربطنا بدول الجامعة العربية علاقات اخوية جيدة، بل متينة جداً. ونقيم علاقات طيبة مع معظم دول الجامعة ونحن نتبادل واياهم السفراء ونشاركهم التشاور في كل الامور التي تهم العالم العربي وشعوبه.. وخاصة قضية هذا الزمن، التي هي قضية فلسطين ثم بعض القضايا التي لا تزال تشغل الشعوب العربية عن مضاعفة السير في تحقيق كل ما يريدون من تقدم وتطور.
في الختام تقدمت من فخامته باسمي واسم المجلة التي انا موفدها الخاص الى هذا الجزء من العالم باجمل عبارات الشكر والامتنان راجيا من الله كل عز وسؤدد ولشعبكم الجيبوتي الشقيق كل تقدم وازدهار.
«من جعبة الذكريات»
حلقات أسبوعية
بقلم الصحافي الحاج علي عبود
Leave a Reply