ليس سرا أن مجرد اجراء انتخابات في عراق ما بعد صدام حسين يثير “الرعب” في محيطه العربي الذي لايزال محكوما بأنظمة شمولية سواء أكانت “جمهورية” أم ملكية، وأن عيون تلك الأنظمة شاخصة الى ما ستؤول اليه العملية الديمقراطية –على عواهنها- الجارية في العراق، والتي سال دونها دم غزير، الا أنها تقدمت فوق نهر الدم ونجح العراقيون حتى الآن في تحديهم لكل أنواع البلطجة السياسية والأمنية، فانتخبوا ممثليهم بالملايين، في تجربة لو أحسنوا استثمارها لمصلحة بلدهم، ووضعوا خلافاتهم جانبا، ولبوا المصلحة الوطنية العراقية على ما عداها لأصبحوا بالفعل “مصباح الهدى” الديمقراطي لسائر الشعوب المحيطة، وكوة الأمل التي يمكن لتلك الشعوب أن تطل منها على حقبة جديدة، من التنمية الانسانية والسياسية والاقتصادية، بعد عهود من الاستبداد والتخلف اللذين كانا سمة ماضي وحاضر الشعوب العربية من المحيط الى الخليج.
لكن العملية الانتخابية ومسيرة الديمقراطية في العراق “الجديد” لاتزالان محفوفتين بمخاطر جمة نتيجة الانقسام الداخلي المستحكم بمكونات الشعب العراقي، و”تنوع” تطلعاته السياسية الى درجة الافتراق احيانا. وما يساعد على تعظيم الافتراقات بدل المشتركات هو التدخل الخارجي للقوى الاقليمية والدولية التي تسعى الى احتلال مواقع نفوذ في اي خارطة سياسية جديدة ربطا بطموحاتها في تحقيق نفوذ اقليمي انطلاقا من بلاد الرافدين.
ويبرز تأثير القوى الخارجية على الاوضاع العراقية عبر ثلاث جهات رئيسية، أولها الولايات المتحدة صاحبة النفوذ على الأرض بواسطة جيشها والتي غزت العراق واحتلته، وتسعى ادراتها الحالية الى الانكفاء عسكريا مع الابقاء على مواقع نفوذ سياسي واقتصادي في البلد الذي يعوم على ثروة نفطية هائلة سوف تظل تشكل مصدرا حيويا للطاقة للولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى على المدى المنظور. وثاني تلك القوى هي الجمورية الاسلامية الايرانية التي خاض عراق صدام حسين معها حربا مدمرة ودموية دامت ثماني سنوات، وشكل سقوط النظام العراقي السابق فرصتها التاريخية لمد جسور مع الداخل العراقي الأغلبي الذي يشترك معها في المذهب الشيعي.
تستفيد ايران من علاقاتها المتنوعة والمتشعبة مع المكونات السياسية للشيعة العراقيين، من حزب “الدعوة” الذي يرأسه نوري المالكي، الى التيار الصدري، والمجلس الأعلى الاسلامي بزعامة عمار الحكيم. وتتيح هذه العلاقة مع شيعة العراق للجمهورية الاسلامية لعب دور أساسي في الصيغة التي سيرسو عليها حكم العراق. أما الطرف الثالث فتمثله سوريا من خلال علاقتها مع سنة العراق عموما ومع الفئات الحزبية البعثية منها حصرا التي تسعى لاستعادة ولو الحد الأدنى من المشاركة في السلطة التي كانت تتحكم بمقاليدها لعقود من السنوات.
واذ تبدو الولايات المتحدة اللاعب الأكثر قدرة على التأثير في مجريات العملية السياسية العراقية نظرا للمروحة الواسعة من التحالفات التي نسجتها في محيط العراق الخليجي على مدى سنوات طويلة، الا أنها تظل “محرجة” من التدخل الفاضح لفرض واقع سياسي عراقي يلائم تطلعاتها وتطلعات الحلفاء الغربيين الأمنية والاقتصادية في منطقة فائقة الحساسية الجيوسياسية. لذا تعمل الادارة الأميركية على خطين توازي فيهما بين الحاجة الى انهاء تورطها العسكري مع حلول العام 2011 كما وعدت ادارة الرئيس اوباما، والحاجة الى عراق مستقر سياسيا وامنيا في منطقة ترقد فوق برميل من البرود تكفي شرارة صغيرة من المحيط العراقي لإشعاله.
ولعل أكثر ما يخشى منه، على ضوء النتائج التي أصدرتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات حتى الآن، والتي يستفاد من اتجاهاتها أن “القائمة العراقية” بزعامة “البعثي” السابق ورجل الدولة العلماني الدكتور اياد علاوي تتقدم على قائمة “دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، وعلى ضوء التهديد الصريح الذي أطلقه المالكي باللجوء الى الشارع احتجاجا على ما يؤكد انه تزوير في الأرقام الصادرة عن المفوضية، فان الوضع العراقي يبدو مقبلا على احتمالات خطيرة اذا لم يقر الطرف الخاسر، أيا يكن، وبتشجيع من الحلفاء والرعاة الاقليميين، بهزيمته الانتخابية، واتاحة المجال أمام انتقال سلس للسلطة في بلد لم تتبدل سلطته منذ عهده بالاستقلال عن المستعمر الأجنبي الا بانقلابات دموية.
وقد يطول الوقت قبل أن يتكشف التناقض في الرؤية الى اوضاع العراق الداخلية ودوره في توازنات القوى في منطقة الشرق الأوسط، بين الحليفين “الاستراتيجيين” سوريا وايران وبين كل منهما والولايات المتحدة الأميركية التي لن يرضيها في مطلق الاحوال اي تقارب او تحالف استراتيجي عراقي–سوري قد يشكل بنظر اميركا والغرب خطرا كبيرا على مصالحهما والمصالح الدولية وعلى ربيبتهم اسرائيل التي يشترك الغرب مع اميركا في احتضانها لها والحفاظ على أمنها من أي تهديد عربي أو إسلامي.
واذ يتوقع أن تحمل الساعات القادمة النتائج النهائية للانتخابات العراقية بما يتيح التنبؤ بوجهة التطورات سلبا أو “ايجابا”، ثمة تقارير اعلامية تنسب الى مصادر سياسية عربية واسلامية أن زعيم “القائمة العراقية” الدكتور اياد علاوي يمثل فرس الرهان السعودي (الخليجي) في المرحلة المقبلة. وتزعم تلك التقارير أن ثمة محالاوت تبذلها كل من تركيا وسوريا والسعودية بتشجيع أميركي غير معلن لتعزيز حظوظ علاوي في تأليف الحكومة العراقية القادمة.
غير أن العارفين بتفاصيل الأوضاع العراقية يسفهون هذا الاحتمال من أساسه ويكادون يجزمون بانعدامه لأسباب أهمها أن ايران ذات النفوذ الأقوى لدى جميع التيارات السياسية الشيعية سترفض وجود علاوي على رأس السلطة في العراق، لأنها ترى فيه رجل أميركا والسعودية في العراق ولأن عقيدته العلمانية ذات الجدذور البعثية، تجعله خصما لطموحاتها بنفوذ في البلد الجار الذي انتظرت عشرات السنين لكي تصل أغلبيته الشيعية الى السلطة وتقيم معها علاقة تحالف وتكامل تراها طهران من طبيعة الأمور وبديهياتها بين بلدين يشتركان بغلبة مذهبهما الشيعي الاثني عشري على جغرافيته البشرية.
من هنا يشاع بقوة أن ايران ستلزم حلفاءها من الاحزاب والتيارات الشيعية العراقية، وعلى الأخص كتلتي المالكي (دولة القانون) وعمار الحكيم ومقتدى الصدر (الائتلاف الوطني) على التعاون رغم الخلافات العميقة القائمة بين هذه التيارات حول شخصية رئيس الوزراء القادم، والتي يسعى التيار الصدري خصوصا، بكل طاقاته ونفوذه الى ابعاد نوري المالكي وحزب “الدعوة” عنها انتقاما من استبعاده من الائتلاف الذي شكله المالكي اثر فوزه في الانتخابات المحلية في مطلع السنة الماضية، وللثأر من الحملة الأمنية التي شنها المالكي بالتنسيق مع الأميركيين ضد ميليشياته في غير منطقة عراقية، وأخصها في المدينتين المقدستين النجف وكربلاء، فضلا عن البصرة الجنوبية.
والحال، أن صورة نتائج الانتخابات لاتزال ضبابية ويصعب التكهن بالمسار الذي ستسلكه التطورات في الأيام القليلة المقبلة، وعلى ضوء “الكلام الكبير” الذي صدر عن المالكي وفحواه أن الفوضى ستعم إذا لم يتدارك أصحاب الشأن الدوليون والاقليميون الخطر الماثل ويقبلوا، كما يطالب المالكي، بإعادة فرز يدوية للنتائج في عملية ينظر اليها الطرف “الموعود” بالفوز بأنها اعادة فعلية للانتخابات و”رفض لإرادة الشعب العراقي” التي عبرت عنها الانتخابات الأخيرة.
وإن بدا من غير المؤكد حتى الآن معرفة النتائج التي ستتمخض عنها مساعي رعاة الشأن العراقي وأصحاب الكلمة في مجرياته، وفيما اذا كان تشكيل حكومة “اقليمية – دولية” ترضي جميع اللاعبين مسألة في المتناول أم لا، يبقى الثابت أن العراق يعيش ساعات وأيام مصيرية من شأنها أن تحدد أي الطريقين سيسلك: طريق الانقسام المفضية الى حروب وصراعات داخلية قد يؤجهها الانسحاب الأميركي الجزئي في آب (أغسطس) المقبل والكامل مع مطلع العام 2011، أم طريق السلام الداخلي الذي يبقى رهنا بارادة وطنية عراقية جامعة، ليست من ضروب المستحيل، اذا توافرت لها الارادات والنوايا الطيبة لدى مختلف اطياف الشعب العراقي التي ذاقت كل الوان الاضطهاد والاستبداد خلال العقود الأربعة الماضية.
ليس ما تقدم “وعظا” للعراقيين، الذين نعرف مدى حساسيتهم “للتدخل في شؤونهم” ولو كتابة أو رأيا، وكاتب هذا المقال تلقى أكثر من سهم ظالم في خلال اطلالات اعلامية حول الشأن العراقي في مرحلة ما قبل الغزو وخلاله لكن الاحداث اثبتت أن مقولة “دعوا العراقيين وشأنهم” هي مقولة ساذجة، في التوصيف الأكثر تهذيبا!
Leave a Reply