حدّثني صاحب لي عن خاطر قد عنّ له يوماً بعيد اشتغاله بالكتابة، أي كتابة القصص، وكان هذا الصديق متفلسفاً من أصحاب الكلام حتى إذا ألّف فكرة أو عقيدة جعل سهاده فيها سرمداً وليله مورقاً، فكان صديقي قد أنس ذلك الخاطر في نفسه هوى وعشقاً. وكذا حال الفلاسفة والقصاصين من الناس أعانهم الله على أنفسهم يعشقون ما يصنعون في خيالهم ويبيتون على طوى.
أما صاحبي هذا فكان من أمره أن انقادت نفسه الى ذلك الأمر وهشّت له جوانحه فألزمه ذلك داره ردحاً وهوى إليه بكليته حتى قضى في ذلك من الأشهر ثلاثاً، فطالت لحيته واستطالت حتى أسدلت فكان منظره عجيباً كأنه لا يعيش في زماننا هذا.
وكان في بعض الأيام لائذاً كعادته في صومعته لا يلوي على شيء سوى عروج خيال أو تحريك قلم قد أحس بانقباض في النفس فارتأى الذهاب من المسجد عسى أن يستطيب مع الاخوان بلقاء أو ينأى عن الملل بأجر يصيب أو استرواح لنفس.
واستطرد صاحبي يحدثني قائلا: منذ أن وطئت قدماي ذلك المسجد الذي طالما حضرت فيه صلوات، انتابني إحساس أبعد شيء عن الإلفة ورأيت نفراً من الذين قد تهيأوا للصلاة وأخذوا ينظرون إليّ من طرف خفي فقلت لعلّي مستوحش لقيا الناس بعد تلك الأشهر الثلاثة العزلاء، وإن ذلك عائد إلى واهمة غشيت بها، ولعلها ذاهبة عنيَ بعد هنيهة، وهل هذا الذي أراه على أثر تلك النفرة من الزمن.
وتابع محدثي: ما إن هممت بإقامة الصلاة حتى رفع أحد الوقورين عقيرته ناظراً إلي شزرا قائلا: ليس ذلك الوقت وقتهم. فعرفت أنه قد عناني وحسب أن غريباً من قوم آخر قد حضر صلاتهم وأن السبب هذه اللحية التي بدوت فيها من غير قومي لعظم شأنها عندهم ولعظم حجمها لدي، فما راعني شيء من ذلك فاقمت الصلاة على استحياء مني وعجل وهممت بالخروج من ذلك المسجد لا ألوي على شيء سوى السلامة يا صديقي.
وكان شأني في يوم آخر أن أوصيت بابتياع بعض التوابل والبزورات حتى تطبخ وتسوى لغداء ذلك اليوم، فقصدت دكانا كنت اذهب اليه بين الفينة والفينة فما أن دخلت حتى لوى الحاضرون أعناقهم الي جميعا حتى الصبية منهم والرضع. فجعلت لا أحرك ساكنا جاعلا أنظر اليهم ووجهي راسم من العلامات ما لا يعلمها الا الله حتى كدت الهروب الا قليلا فما استوقفني الا صاحب الدكان بسلام قد ألقاه على كثيراً، على غير العادة، فقلت لعله استوحش الي بعد طول غياب ولم أكن معه صديقا قريبا. وعند خروجي شيعني هذا الأخير بسلام أكثر من الأول وأردف “نسألك الدعاء يا مولاي”، فما إن سمعت ذلك حتى قلت في نفسي والله إن لهذه اللحية أثرا لا يستهان به، فها هي لازالت بي حتى جعلتني مولى وجعلت النساء والصبية يرونني ولياً.
أما يوم ذهابي الى عيادة الطبيب فلا أحدثك منه أمرا. ما إن دخل علي الطبيب بعد طول انتظار وتلك اللحية تجللني بهيبة وكأني درويش من الدراويش أو مجذوب من المجاذيب حتى راعني إجفال ذلك الطبيب عند رؤيتي فخشيت أن يصيبه بعض بركتي ولكن الله سلم فقال بعد برهة سائلا:
– خيرا، أهناك أمر تريد قوله؟
– ليس من أمر دكتور إلا هذه الآلام..
– أمتأكد أنه لا يوجد غير آلام الجسد؟
– وما يكون غيرها..
فقاطعني قائلا: ما أراك إلا متألما على أمة الإسلام. واردف متأوها وقد كسف وجهه: أيه.. أعاننا الله وأمة الإسلام..
وما إن سمعته حتى هممت بالبكاء لا أدري على حالي أم على حال أمة الإسلام فقد بلغ السيل الزبى، وقلت متعجلا: وأنا على أمة الإسلام أكثر أسفا..
Leave a Reply