جيمس زغبي
خيمت حالة من الغموض على الأسابيع التي تلت الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2000، وتصاعد التوتر في صفوف أنصار جورج بوش الابن من ناحية، وآل غور من ناحية أخرى. في خضم تلك الأجواء المشحونة أجرى أخي جون زغبي استطلاعاً للرأي لمعرفة الطريقة التي ينظر بها الديمقراطيون والجمهوريون إلى تلك الانتخابات المثيرة للجدل، فاسترعى انتباهنا أحد الأسئلة بعينها.
سأل جون حينها الناخبين الجمهوريين عما إذا كانوا يعتبرون آل غور رئيساً شرعياً إذا أعلن فوزه في الانتخابات، وطرح السؤال نفسه على الناخبين الديمقراطيين بشأن جورج بوش الابن، وقد جاءت الأجوبة محيرة. اعتبر 20 بالمئة من الديمقراطيين أنهم لن يعترفوا بشرعية جورج بوش الابن. لكن الأمر الأكثر إثارة للحيرة هو أن 67 بالمئة من الناخبين الجمهوريين قالوا إنهم لن يعترفوا بآل غور كرئيس شرعي.
في هذه السنة، اختار جون، عبارة «انتخابات أرمجدون» في وصفه لطبيعة المشاعر التي تنتاب الطرفين الجمهوري والديمقراطي وهما يفكران –بلا شك– في التداعيات التي قد تنجم عن الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في نوفمبر القادم. فبالرغم من أن جميع الانتخابات الرئاسية التي أجريت منذ العام 2000، كانت دوماً تتسم بأهمية وحساسية كبيرتين، وسط انقسامات وحالات استقطاب حادة، غير أنها لم ترتق بأي حال من الأحوال إلى الانتخابات المزمع إجراؤها في شهر نوفمبر 2020 والتي يتنافس فيها الرئيس الجمهوري الحالي دونالد ترامب ومرشح الحزب الديمقراطي ونائب الرئيس السابق جو بايدن. إنها «انتخابات أرمجدون» الحقيقية التي لم نشهد لها مثيلا في حياتنا السياسية المعاصرة.
فمع كل يوم يمر يتضح أننا نمضي في سباق صعب ومعقد، لكن أكثر ما يثير المخاوف هو المشاكل والصعوبات التي قد تواجهنا بعد إعلان نتائج الانتخابات. إذ أن هناك مخاوف شرعية من أن ديمقراطيتنا، التي تضررت أصلاً بسبب حالة الاستقطاب الحزبي، قد تصبح في موضع الخطر.
بغض النظر عن انتمائنا إلى أحد الحزبين المتنافسين أصبحنا نعيش في داخل دولتين تضمان قاعدتين انتخابيتين مختلفتين. فقد أظهرت نتائج استطلاعات الرأي وجود انقسام كبير بشأن عديد المسائل ولا يقتصر الأمر على القضايا المتعلقة بالعرق والمساواة بين الجنسين والهجرة ودور الحكومة. فالخلافات بين الجانبين أعمق من ذلك بكثير. فالجانبان يحملان رؤيتين متناقضتين عن فكرة الولايات المتحدة الأميركية نفسها، أعني تاريخها ومستقبلها. وفي بعض الأحيان نشعر وكأن هذين المعسكرين لا ينظران فقط إلى الواقع بطريقة مختلفة بل إنهما يتحدثان بلغتين مختلفتين.
الأمر لا يتعلق فقط بشرخ حزبي وسياسي، بل إنه شرخ ديمغرافي أيضاً. فالجانب الأول يسيطر عليه أساساً الناخبون البيض الأكبر سناً من الذكور وسكان الأرياف. أما الجانب الآخر فإن قاعدته تضم الناخبين الأكثر تعلماً والذين يسكنون المدن إضافة إلى فئة الشباب والسود واللاتينيين والآسيويين.
الطرف الأول يريد استعادة أمجاد الماضي، وهو يشعر بأن ثقافته ووطنه مهددان من القادمين الجدد من الأجانب، أما الطرف الثاني فهو يرى أن قوة الولايات المتحدة تكمن في تقدمها وتعدديتها ويؤيدون فكرة الاندماج في المجتمع الأميركي دون أي خوف من التغيير.
ولقد تجلى هذا الاختلاف الكبير خلال المؤتمرين اللذين عقدهما الحزبان الديمقراطي والجمهوري في شهر أغسطس الماضي. فقد اعتمد كل حزب على مدى أسبوع كامل على الإعلانات التلفزيونية الدعائية كي يرسم الولايات المتحدة التي يريدها، مما يؤكد على خطورة التداعيات التي قد تنجم عن نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة، سواء إذا فاز هذا الطرف أو ذاك.
في مقال بارز منشور في مجلة «نيويورك ريفيو»، قال فنتان تول: إن مؤتمر الحزب الديمقراطي قد رسم صورة قاتمة للانتخابات الرئاسية وكأنها تمثل «معركة وجودية» ما بين الخير والشر، والنور والظلام – أو بين إنهاء الانقسامات العنصرية والعدالة الاقتصادية والاحتفاء بالتعددية من بلورة الهدف المشترك الذي يلتقي حوله الجميع – أو التمادي في إثارة التوترات الاجتماعية وتعميق الانقسامات والانغماس أكثر فأكثر في أتون الكراهية والغضب والفوضى.
خيارات الحزب الجمهوري هي أيضاً وجودية وقد عبر عنها الرئيس دونالد ترامب عندما خطب يقول إن الانتخابات الرئاسية القادمة ستكون ما بين «الكنيسة والعمل والمدرسة من ناحية» و«أعمال الشغب والنهب والهمجية» من ناحية ثانية.
من هذا المنظور الجمهوري يتم تصوير الديمقراطيين على أنهم رهينة القوى والتيارات الاشتراكية المتطرفة وألعوبة بين أيدي «قوى الظلام»، التي تخطط لإثارة الاضطرابات الاجتماعية وإضعاف قوات الشرطة وتدمير «أسلوب عيش» الطبقة الوسطى.
ويعتبر الجمهوريون أن انتصارهم في الانتخابات الرئاسية القادمة مسألة ضرورية من أجل إنقاذ الأميركيين وثقافتهم وقيمهم وأسلوب عيشهم، فهم يرفعون شعار «استعادة عظمة أميركا»، فيما ينظر إلى هذا الشعار على أنه لا ينطوي على رؤية مستقبلية بقدر ما يمثل محاولة من أجل استعادة الأمجاد الضائعة.
أما الديمقراطيون فهم يعتبرون أن الانتصار في الانتخابات القادمة مسألة ضرورية من أجل حماية الولايات المتحدة من الفوضى والكراهية العنصرية والانزلاق الخطير باتجاه الحكم الشمولي الاستبدادي.
لا شك أن الرهان كبير سواء بالنسبة للحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري اللذين يقفان اليوم على طرفي النقيض. إنهما يعطيان الانطباع لأنهما يقولان إنه «في صورة فوز هذا الطرف في الانتخابات الرئاسية القادمة فإن كل شيء سيضيع» وأن «ذلك سيكون نهاية العالم» أو «أرمجدون».
لعل ما يثير المخاوف أكثر من أي شيء آخر أن الرئيس ترامب يستخدم حسابه في تويتر من أجل الخوض في نظريات المؤامرة والحديث عن أولئك الأثرياء الذين يتآمرون تحت جنح الظلام ويعملون على تدمير البلاد. إذ دأب ترامب على إعادة نشر تغريدات تتحدث عن نظريات تروج لها جماعة QAnon على خلفية مؤامرة Pizzagate، والتي تقول إن مطعم بيتزا في واشنطن كان يستخدم كواجهة من أجل التغطية على عمليات سرية لاستغلال الأطفال جنسياً.
والأخطر من كل ذلك أن الرئيس ترامب أصبح يزعم بأن نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة ستتعرض للتزوير كما أنه ظل يكرر بأن الطريقة الوحيدة لهزيمته في الانتخابات إنما تكون بالتزوير.
وقد أظهر استطلاع للرأي أجري مؤخراً أن ثلث الناخبين الديمقراطيين والجمهوريين يعبرون عن مخاوفهم الجدية بشأن مسألة شرعية نتائج الانتخابات القادمة.
وقد ألمح الرئيس ترامب الى أنه في حال تزوير الانتخابات فإن أنصاره قد يهبون للدفاع عن أنفسهم وعن رئاسته ضد دعاة النهب والفوضى والذين يسعون إلى تفكيك البلاد وتمزيق أوصالها.
وما شهدناه من مواقف وانقسامات حادة حول وباء كورونا وحركة الاحتجاجات الوطنية ضد وحشية الشرطة، ما هو إلا دليل واضع على حالة الاستقطاب العميقة والخطرة التي باتت تطغى اليوم على المجتمع الأميركي.
وإذا كان تنصيب ترامب في شهر يناير 2017 قوبل برفض ملايين الأميركيين. فيمكن أن نتوقع أن يحدث الشيء نفسه هذه المرة أيضاً، لاسيما أن الطرفين يتحدثان عن انتخابات نوفمبر وكأنها معركة «نهاية العالم».
Leave a Reply